TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > ساحات العراق

ساحات العراق

نشر في: 30 أكتوبر, 2012: 11:00 م

الطائفية (وضمنها الأصولية) هيمنت في ساحات دون أخرى في العراق. فالغلبة لها في ساحات الدين والسياسة والاقتصاد بينما تسود العلمانية ساحتي الثقافة والفكر.
والتفريق بين الفكر والثقافة، رغم مشتركاتهما، مفيد لتقريب صورة كل منهما الى الأذهان. فساحة الفكر هي للفلسفة والبحوث العلمية والمقالات الفكرية والأدبية والصحفية. وساحة الثقافة تشمل الفنون والآداب من شعر وقصة ومسرح وموسيقى وتشكيل وسينما ودراما ورقص وغناء وأدب شعبي أو فولكلور.
وفي العراق، كما في سائر البلدان العربية والاسلامية، يهيمن العلمانيون على الساحة الثقافية. فالإسلام السياسي بكل أنواعه فقير واحيانا معدم في ساحة الثقافة. وهذه مفارقة عميقة تستدعي التأمل. فجذور الفنون والآداب كلها دينية. في حين أن القطيعة شبه شاملة بين الاسلام السياسي وبين الثقافة. نازك الملائكة وغائب طعمة فرمان وزهور حسين وجواد سليم لا يظهرون في حقول الاسلام السياسي.
نفس الشيء يمكن أن يقال في "الساحة الفكرية". فشغيلة هذه الساحة هم المفكرون والباحثون في علوم الانسان والمجتمع وكتّاب المقالات، وهم غالبا علمانيون. الاختصاص والمنهج والرؤية تفرض على منتج "الوعي الفكري" أن يكون علمانيا. وهكذا فإن أمثال جواد علي وعلي الوردي وكنعان مكية يمتنع وجودهم في الاسلام السياسي.
في الساحة الدينية هناك كثرة من المفكرين من مختلف الحجوم. إن شغيلة أو منتجي "الوعي الديني" أكثر عددا وأكبر تأثيرا من شغيلة "الوعي الفكري"، ففيهم رجل الدين(الشيخ) والمجتهد والمفكر ومنظِّر الاسلام السياسي. وفي العراق، كما في سائر البلدان العربية، حظي "الوعي الديني" بفرص للنمو والاتساع حرم منها "الوعي الفكري"، في ظل الأنظمة التسلطية او الدكتاتورية. فهذه الأنظمة تتدخل على راحتها في المدارس والجامعات ومراكز البحوث ودور النشر والإعلام، فتمنع وتقمع حرية الفكر.
ولكنها لا تستطيع أن تأخذ راحتها تجاه الجامع والحسينية. ومهما كانت تدخلاتها، وقمعها الوحشي أحيانا لقوى الاسلام السياسي، فانها لا تستطيع أن تضرب بيوت ومراكز ومنابر الدين غير المسيس المهيمنة على الفضاء الوطني. وأكثر من ذلك فانها تتملقها من أجل اضفاء المشروعية على سلطاتها. والقاعدة هي ان الساحة الفكرية اذا فرغت تقدم الدين ليشغلها. الأمر الذي يمكن للأصوليين استثماره في اول فرصة سانحة. وهكذا فانه ما ان سقط نظام صدام، وبعده الأنظمة الأخرى في تونس ومصر وليبيا، ظهرت سيطرة الوعي الديني على الجمهور، وهيمنة الاسلام السياسي على الساحات الدينية. وقد مهدت الهيمنة على الساحة الدينية هيمنة على الساحة السياسية. وفي حالة العراق امتدت الهيمنة على الساحتين الدينية والسياسية الى الساحة الاقتصادية.
 وهذا لا يشمل كردستان التي تبدو ساحاتها السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والفكرية معلمنة، بسبب ظروفها التاريخية المختلفة، وضمنها عامل "التحرر القومي" الذي يمثل التيار المهيمن، وهو ذو طبيعة علمانية أصلا. وبينما يسود في كردستان التلاؤم بين الساحات، مما يعزز امكانية التنمية فيها جميعا، فإن التناقضات في العراق العربي جعلت ساحات الدين(التي تهيمن عليها الأصولية والطائفية) والسياسة والاقتصاد حلبات صراع، ووضعت الفكر والثقافة على الهامش، وأدخلت البلد كله في أزمة.
ان السلطة والثروة في ساحات السياسة والدين والاقتصاد من نصيب القوى الأصولية والطائفية المتنافسة والمتصارعة. وليست لدى هذه القوى مصلحة بتنمية ساحات لا نصيب لها فيها كالفكر والثقافة. اللهم الا بإفراغها من محتواها وتحويلها الى وسائل دعاية واعلان. وهو مصير نادرا ما تنجو منه ساحات الثقافة والفكر في أوقات الأزمات.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

«الإطار» يطالب بانسحاب السوداني والمالكي.. وخطة قريبة لـ«دمج الحشد»

تراجع معدلات الانتحار في ذي قار بنسبة 27% خلال عام 2025

عراقيان يفوزان ضمن أفضل مئة فنان كاريكاتير في العالم

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

بغداد تصغي للكريسمس… الفن مساحة مشتركة للفرح

ملحق منارات

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: موجات الجزائري المرتدة

العمود الثامن: بلاد الشعارات وبلدان السعادة

 علي حسين نحن بلاد نُحكم بالخطابات والشعارات، وبيانات الانسداد، يصدح المسؤول بصوته ليخفي فشله وعجزه عن إدارة شؤون الناس.. كل مسؤول يختار طبقة صوتية خاصة به، ليخفي معها سنوات من العجز عن مواجهة...
علي حسين

قناطر: شجاعةُ الحسين أم حكمةُ الحسن ؟

طالب عبد العزيز اختفى أنموذجُ الامام الحسن بن علي في السردية الاسلامية المعتدلة طويلاً، وقلّما أُسْتحضرَ أنموذجه المسالم؛ في الخطب الدينية، والمجالس الحسينية، بخاصة، ذات الطبيعة الثورية، ولم تدرس بنودُ الاتفاقية(صُلح الحسن) التي عقدها...
طالب عبد العزيز

العراق.. السلطة تصفي الحق العام في التعليم المدرسي

أحمد حسن المدرسة الحكومية في أي مجتمع تعد أحد أعمدة تكوين المواطنة وإثبات وجود الدولة نفسها، وتتجاوز في أهميتها الجيش ، لأنها الحاضنة التي يتكون فيها الفرد خارج روابط الدم، ويتعلم الانتماء إلى جماعة...
أحمد حسن

فيلسوف يُشَخِّص مصدر الخلل

ابراهيم البليهي نبَّه الفيلسوف البريطاني الشهير إدموند بيرك إلى أنه من السهل ضياع الحقيقة وسيطرة الفكرة المغلوطة بعاملين: العامل الأول إثارة الخوف لجعل الكل يستجيبون للجهالة فرارًا مما جرى التخويف منه واندفاعا في اتجاه...
ابراهيم البليهي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram