الطائفية (وضمنها الأصولية) هيمنت في ساحات دون أخرى في العراق. فالغلبة لها في ساحات الدين والسياسة والاقتصاد بينما تسود العلمانية ساحتي الثقافة والفكر.
والتفريق بين الفكر والثقافة، رغم مشتركاتهما، مفيد لتقريب صورة كل منهما الى الأذهان. فساحة الفكر هي للفلسفة والبحوث العلمية والمقالات الفكرية والأدبية والصحفية. وساحة الثقافة تشمل الفنون والآداب من شعر وقصة ومسرح وموسيقى وتشكيل وسينما ودراما ورقص وغناء وأدب شعبي أو فولكلور.
وفي العراق، كما في سائر البلدان العربية والاسلامية، يهيمن العلمانيون على الساحة الثقافية. فالإسلام السياسي بكل أنواعه فقير واحيانا معدم في ساحة الثقافة. وهذه مفارقة عميقة تستدعي التأمل. فجذور الفنون والآداب كلها دينية. في حين أن القطيعة شبه شاملة بين الاسلام السياسي وبين الثقافة. نازك الملائكة وغائب طعمة فرمان وزهور حسين وجواد سليم لا يظهرون في حقول الاسلام السياسي.
نفس الشيء يمكن أن يقال في "الساحة الفكرية". فشغيلة هذه الساحة هم المفكرون والباحثون في علوم الانسان والمجتمع وكتّاب المقالات، وهم غالبا علمانيون. الاختصاص والمنهج والرؤية تفرض على منتج "الوعي الفكري" أن يكون علمانيا. وهكذا فإن أمثال جواد علي وعلي الوردي وكنعان مكية يمتنع وجودهم في الاسلام السياسي.
في الساحة الدينية هناك كثرة من المفكرين من مختلف الحجوم. إن شغيلة أو منتجي "الوعي الديني" أكثر عددا وأكبر تأثيرا من شغيلة "الوعي الفكري"، ففيهم رجل الدين(الشيخ) والمجتهد والمفكر ومنظِّر الاسلام السياسي. وفي العراق، كما في سائر البلدان العربية، حظي "الوعي الديني" بفرص للنمو والاتساع حرم منها "الوعي الفكري"، في ظل الأنظمة التسلطية او الدكتاتورية. فهذه الأنظمة تتدخل على راحتها في المدارس والجامعات ومراكز البحوث ودور النشر والإعلام، فتمنع وتقمع حرية الفكر.
ولكنها لا تستطيع أن تأخذ راحتها تجاه الجامع والحسينية. ومهما كانت تدخلاتها، وقمعها الوحشي أحيانا لقوى الاسلام السياسي، فانها لا تستطيع أن تضرب بيوت ومراكز ومنابر الدين غير المسيس المهيمنة على الفضاء الوطني. وأكثر من ذلك فانها تتملقها من أجل اضفاء المشروعية على سلطاتها. والقاعدة هي ان الساحة الفكرية اذا فرغت تقدم الدين ليشغلها. الأمر الذي يمكن للأصوليين استثماره في اول فرصة سانحة. وهكذا فانه ما ان سقط نظام صدام، وبعده الأنظمة الأخرى في تونس ومصر وليبيا، ظهرت سيطرة الوعي الديني على الجمهور، وهيمنة الاسلام السياسي على الساحات الدينية. وقد مهدت الهيمنة على الساحة الدينية هيمنة على الساحة السياسية. وفي حالة العراق امتدت الهيمنة على الساحتين الدينية والسياسية الى الساحة الاقتصادية.
وهذا لا يشمل كردستان التي تبدو ساحاتها السياسية والدينية والاقتصادية والثقافية والفكرية معلمنة، بسبب ظروفها التاريخية المختلفة، وضمنها عامل "التحرر القومي" الذي يمثل التيار المهيمن، وهو ذو طبيعة علمانية أصلا. وبينما يسود في كردستان التلاؤم بين الساحات، مما يعزز امكانية التنمية فيها جميعا، فإن التناقضات في العراق العربي جعلت ساحات الدين(التي تهيمن عليها الأصولية والطائفية) والسياسة والاقتصاد حلبات صراع، ووضعت الفكر والثقافة على الهامش، وأدخلت البلد كله في أزمة.
ان السلطة والثروة في ساحات السياسة والدين والاقتصاد من نصيب القوى الأصولية والطائفية المتنافسة والمتصارعة. وليست لدى هذه القوى مصلحة بتنمية ساحات لا نصيب لها فيها كالفكر والثقافة. اللهم الا بإفراغها من محتواها وتحويلها الى وسائل دعاية واعلان. وهو مصير نادرا ما تنجو منه ساحات الثقافة والفكر في أوقات الأزمات.
ساحات العراق
[post-views]
نشر في: 30 أكتوبر, 2012: 11:00 م