4-4
كما قلت في الأعمدة السابقة عن بغداد، لم تولد مدينة السلام التي طلّقت السلام بالثلاث منذ دهور، بالصدفة إذن. ربما فكر أبو جعفر المنصور أن وجود خلافة جديدة يحتاج إلى نشوء مدينة جديدة أيضاً، دون أن يدري أنه بهذا الشكل أسّس تقليداً في العراق؛ بأن كل العائلات أو السلالات التي حكمت بغداد لاحقاً هي سلالات وعائلات غريبة عن المدينة، أقوام قادمة من ممالك وأمم أخرى وإمبراطوريات، أو قادمة من مدن أخرى على الأقل (حتى اليوم، الذين يجلسون في القصر الجمهوري والمنطقة الخضراء في بغداد لا علاقة لهم قريبة أو بعيدة بها)، الكل يريد صناعة مجده الخاص به عليها، كأن هذا هو قدر بغداد، لا خيار لها غير قبول الغرباء، والغرباء هؤلاء، وباستثناءات قليلة، كانوا سبّاقين بزرع الخراب فيها وإشاعة الدمار، صحيح أنها أحدث من الموصل والبصرة وأربيل، لكن حجم الخراب الذي عاشته يفوق كل ما تعرضت له ثلاث مدن وادي الرفدين على طول تاريخها الطويل. ألف وأربعمئة وخمسون سنة هو تاريخ بغداد، لكن لو وضعنا الخراب الذي تعرضت له على أيدي الغرباء في كفة ميزان، والخراب الذي تعرضت له المدن الثلاث الأخرى، لما عثرنا على كفة ميزان لإحداهن تقدر على حمل ما حملته بغداد من خراب!
لم أعرف ذلك عند جمعي للبطاقات البريدية التي واظب أبي على إرسالها لنا في الستينات إلى العمارة من بغداد، لكنني الآن، وأنا أتطلع للصور المطبوعة هناك، أعرف أن كل الصور تلك هي توثيق للخراب، توثيق لمعالم مدينة إن لم تكن مخربة في حينه، في سنوات الستينات، فإنها ستُخرّب لاحقاً مع مرور الأيام. ليس من الغريب، إذن، ذلك الإحساس الذي استحوذ على عقل الطفل الصغير الذي كنته، والذي جعله يعتقد، وهو يجمع الصور ويتخيل بغداد ويبنيها مدينةً جديدةً يسير فيها مع أبيه، بأن الإحساس ذاك كان واقعياً لا علاقة له بمتخيل أو اختراع، لأن بغداد هذه كفّت عن الوجود مع الحضارة التي بنتها. بغداد العباسية لها علاقة بزمن غابر، زمن ولّى وحسب، بغداد ماتت أصلاً في 10 شباط/ فبراير 1258م، منذ دخول هولاكو إليها، أكثر من مليوني قتيل وأكثر من خراب ودمار، آلاف الكتب النفيسة في الطب والفلك والعلوم والآداب، كل ما حوته مكتبة بيت الحكمة، حرقها جيش هولاكو. قيل إن مياه دجلة تلوّنت بحبر اختلط بلون الدم. المساجد والقصور والمكتبات والمستشفيات نُهبت ودُمِّرت. الأبنية الكبيرة التي عملت لأجيال نُهبت وأُحرقت ثم سوّيت بالأرض، حتى أن هولاكو اضطر لنقل مخيّمه عكس الريح عن المدينة بسبب رائحة الموت والدمار الذي انبعث منها. تلك هي بغداد، خراب في خراب، ولكي تحيا وتعيش من جديد لا بدّ من بعث الروح فيها من جديد، ليس بالضرورة بالشكل الذي أراده لها مؤسسها أبو جعفر المنصور، بل بالشكل الذي أرادته هي لنفسها، أو بالشكل الذي ظننته أنا أنها اختارته. بغداد التي سئمت لعب الدور الذي أراده لها الكبار، هذه المرة تريد العيش فقط في عيون الأطفال. ماذا قال الشاعر السوري نزار قباني فيها: «عيناكِ يا بغداد منذ طفولتي، شمسان نائمتان في أهدابي». إنها تعيش فقط عند زيارتي لها، وإنني بهذا الشكل مثل المدينة ذاتها، المدينة المنقسمة إلى صوبين «شمسين» لا يمكن الفصل بينهما: الكرخ والرصافة. إنني أنا الآخر منقسم إلى شخصين: نجم الذي يعيش في بغداد، ونجم الذي يعيش بعيداً عنها. وبهذا الشكل فقط نوجد نحن الاثنان.
المدينة الغريبة في المكان الغريب
[post-views]
نشر في: 17 مايو, 2016: 09:01 م