مشرق عباس
أليس في العراق قاضٍ متقاعد؟ ديبلوماسي أو سفير سابق؟ جنرالٌ عسكريٌّ، أستاذ جامعي خبير أو معلمٌ مرموق، أو موظف مسلكيّ متقاعد حتى نستشيره ونستأنس بخبرته ونعيد استذكار تجاربه، بديلاً عن جوقة السياسييّن والبرلمانييّن الموتورين والمسكونين بالانتقامات والتصفيّات، الذين يفترشون صفحات جرائدنا، ويبثّون عُقدّهم ومؤامراتهم وجهلِهم عبر شاشاتنا؟.
أتساءل أحياناً إن كان البرلمانيون متميزين إلى درجةٍ يصعبُ معها تجاهل تصريحاتهم، أم أن وسائل إعلامنا لا تقوى على تجاوز عقيدة "النشرة الحزبية".
أقلب وسائل الإعلام بحثاً عن جملة مفيدة، والمحصلة يومية ومملة ومكرورة.
فالنائب (ص) عن الكتلة (ج) يتهم زعيم الكتلة (ق)، فيرد النائب (ع) عن الكتلة (ق) بسيلٍ من الشتائم، وينبري النائب (س) عن الكتلة (ج) ليعتبر تصريحات زميله (ص) رأياً شخصياً لا يمثلُ الكتلةَ، فيرد النائب (ع) عن الكتلة (ق) بان كتلته تتمتع بأفضل العلاقات التاريخية مع الكتلة (ج)، فيسود الوئام عدة أيام قبل أن يعود النائب (ص) إلى الاتهام ويرجع النائب (ع) إلى الشتائم.
القضية لا تتعلق بمجموعة نواب أدمنت لعبةَ تأزيم المواقف، أو أولئك الذين اختصوا بتهدئتها، بل بالإعلام العراقي نفسه الذي يبدو في كثير من الأحيان وكأنه لا يملك ما يسد به ساعات البث الطويلة، وصفحات الجرائد الخاوية، سوى مساجلات النواب تلك، فتخرج نشرة الأخبار العراقية والصحف إلى جمهورها المغلوب على أمره بكمٍ هائل من المساجلات الشخصية والحزبية، وجعجعات بلا طحين.
هل حولت وسائل الإعلام مجموعة من البرلمانيين إلى نجوم لأنهم يستحقون ذلك، أم لأن العراق لا يمتلك نجوماً غيرهم؟.
أجزم إنَّ الإجابة لا تنتمي إلى الفرضيتين السابقتيّن، فإعلامنا وريثُ عجزِنا عن الإبداع، وقلةِ حيلتنا، وافتقارنا إلى المهنية، واستسلامنا إلى لغة الاتهامات والغمز والتطبيل والتخوين والتسقيط.
إعلامنا ابن شرعيٌ لواقعنا المرتبك، ولأنه لا ينتمي إلى تجربةٍ أصيلة، لم يكن قادراً على إنتاج قصص تبتعد عن مساجلات البرلمانيين، فصار المشهد الإعلامي ساحةً مفتوحةً لهم من دون شروط، وأصبحوا شهوداً ومدعين، قضاة وفلاسفة وخبراء، بعد أن عجزنا عن العثور على خبراء وفلاسفة وقضاة وشهود حقيقيين.
لم يعد أمراً ضرورياً في المهنة أن تبحث عن جنرال أو رجل أمن سابق لتحليل أزمةٍ أمنية، يكفيك أن تحصل على تصريح من "عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية"، وليس بالأمر المهم التوجه إلى اقتصادي مخضرم للبحث في قضية ما، فهواتف "أعضاء اللجنة الاقتصادية مفتوحة" وخبراتهم مجانية وفيهم من ينتمي إلى حزب الناشر، لم يعد يعنينا أن نبحث عن قضاة سابقين لنناقش مسألة قانونية، فالبرلمان يضم لجنة قانونية ومنهم أصدقاء رئيس التحرير.
يدافعُ الزملاء بالحديث عن مصادر التمويل الحزبية، التي نمّطت صحافة ما بعد 2003 بأسلوب صحافة ما قبل هذا التاريخ، وهذا أمر يسهلُ فهمه ويصعب تسويقه، فالضغوط السياسية قد تكون مدخلاً جيداً للبحث عن قصص وخبرات من خارج الوسط السياسي والبرلماني. ومن ثم فإن الأمر لا يختلف لدى وسائل الإعلام "المستقلة" التي أرغمتنا على متابعة قصائد المديح اليومية لأصحاب امتيازها، في محاولة إقناعنا بأنهم "فريدون من نوعهم".
يحز في النفس إننا كإعلامييّن لم ننجح في إنتاج وسيلة إعلام واحدة قادرة على عبور حدودنا، لم نتعب أنفسنا في مقاومة إغراء الاستسهال، ولم ننجح في إقناع السياسيين عندما قرروا أن يصبحوا ناشرين بأن عليهم التصرف على وفق قوانين الناشر لا السياسي.
نعيد تدوير "الشتائم" كل يوم، نتحلق حول النقابة بحثاً عن قطعة ارض أو مكافأة حكومية، ونتصيد أخطاء بعضنا بمعايير انحيازاتنا.
التحق مئات من الصحافيين بدورات تدريبية تعدها منظمات دولية عبر العالم، لم تنجح بعد تسعة أعوام في إنتاج صحافيين قادرين على إحداث الفرق، فلا نعرف إن كانت تلك المنظمات "وهمية" أم إننا نحن "وهميون"؟
في المحصلة نجح السياسيون في تدجيننا، نجحوا في تعليمنا استنماءاتهم السياسية الرخيصة، وقبل هذا نجحوا في إخماد حلمنا بإعلام نفتخر بانتمائنا إليه.