ما أن أعلن متحف براباند في جنوب هولندا عن معرض الفنان "يرون بوش" (1450-1516) حتى حجز الناس مئة ألف بطاقة عبر الإنترنت دفعة واحدة. واضح أن الناس لا تريد أن تفوت فرصة مشاهدة أعمال هذا العبقري الذي تجاوز كل العصور بأعماله الخالدة. كان افتتاح المعرض خاصاً ويليق بالرسام الذي يبدو انه قد جاء من كوكب بعيد ليحط رحاله بيننا، حتى أن ملك هولندا وليم الكساندر فوجئ وهو يفتتح المعرض بالطريقة الغريبة التي استقبله فيها مسؤولو المتحف، فقد قاموا بفرش الأرضية التي تؤدي الى بوابة الدخول بالقش بدلاً من السجادة التقليدية! فَهِمَ الملك الشاب، الدعابة التي تشير الى أشهر لوحات بوش (عربة القش) وأمسك بشوكة كبيرة وحمل بها ضاحكاً بعضاً من القش الذي توزع على كل الأرضية. بهذه الطريقة ابتدأ الافتتاح، جميلاً وغريباً وفيه دعابة تنسجم مع أعمال هذا الفنان. وقد حضر بعض مشاهير الغناء في هولنداً، ليتجمعوا خارج المتحف ويقدموا بعض المقطوعات الغنائية، وطوَّقتهم أيضاً مجموعة من الراقصين التعبيريين الذين تقمصوا الكائنات والشخصيات الغريبة التي رسمها هذا الرسام العبقري من خلال الملابس والأقنعة، وهكذا أحاط بالمتحف أشخاص مجنحون وآخرون على شكل سمكات غريبة الشكل واللون، وأمام البواية تَجمَّع بعض الشياطين بلونهم الأحمر وهم يتمايلون بغرابة ويقدمون وصلات راقصة. ياله من أمر ممتع ومسلٍّ وأنا أرى هذه الأشكال التي تشبه الكثير من الشخصيات التي رسمها بوش حاضرة عند الافتتاح وجاهزة لاستقبال الجمهور عند بوابة المتحف.
أقيم المعرض بمناسبة مرور خمسمئة سنة على وفاة الرسام واعتبار هذه السنة هي سنة "يرون بوش" في هولندا، وقد حمل المعرض عنوان ( رؤية العبقرية) حيث توزعت مجموعة كبيرة من لوحاته الزيتية الخالدة مع عدد كبير أيضاً من التخطيطات في المتحف الذي بات مزدحماً منذ أول يوم للمعرض. قد تبدو أعمال بوش غير معروفة لكل الناس وقد تغيب الكثير من تفاصيل حياته وما قام به، وذلك بسبب الهجمة الدينية الكاثوليكية بعد موته والتي تسببت في حرق الكثير من أعماله وتحطيم ممتلكاته مثل المنحوتات والسجاد وأعمال على الزجاج وغيرها.
تستمر أعمال بوش بطرح الكثير من الأسئلة وعلى مرّ العصور، لأنها مثل حلم غير قابل للتأويل، أنها جميلة وصعبة وغير مفهومة في أغلب الأحيان. لوحاته مرآة لجنون عالمنا الذي نعيشه وعشناه، رسام الشياطين هذا الذي لُقب بالرسام المجنون أراد أن يقول للناس أن هذا العالم مزدحم والطرق كثيرة، فاختر طريقك وأمضِ. أعماله نادرة لأن قيمتها مفتوحة على الأفق، لا تمل الناس منها على مرّ الأجيال وتبقى تستنشق عطرها ذات التأثير الغريب والخاص، حيث تجتمع الطفولة والإيمان في لوحة واحدة. لقد أثّر بوش على الكثير من الفنانين الذين جاءوا بعده وكذلك ألهمت أعماله وفلسفته في الرسم الكثير من الاتجاهات الفنية مثل الدادائية والسريالية وحتى التعبيرية.
أتأمل اللوحات ثم أتطلّع بعدها الى بعض معالم مدينة (دن بوش) التي ولد فيها الفنان وعُرض فيها المعرض، وأتخيل رسامنا الساحر عائداً من بعيد ليشاركني متعة المشي في المدينة. أعرف بأنه سيتعرف على الكثير من التفاصيل التي ستلاقينا، لأن المدينة بكل بساطة لم تتغير على مرّ هذه القرون، سينظر ضاحكاً الى بيته الذي تحول الى محل لبيع الأحذية، وربما سيندهش من فضلات الحمام فوق تمثاله، ويتوقف على ضفة نفس النهر الصغير الذي عرفه، والذي مازال يشق طريقه بهدوء وسط المدينة.