أجيءُ بغداد كلما افترصتُ فرصة للسفر، أو كلما ضاقت مدينتي بي، فأقول كانت أجمل. وكنت أجيئها من قبل، فأقول كانت أجمل، وهكذا ظلت متوالية رؤيتها وهي تتدنى جمالاً وتتراجع مدنية وتحضراً ديدن تصوري لها. أمر حزين ومؤسف أن تجد مدينة مثل بغداد على الصورة المتراجعة هذه، ليست بغداد مدينة عابرة في التاريخ، وهي، قطعا، أكبر من مدينة عاصمة، أكبر من مدينة تحترق يومياً لتنهض من رمادها ساعة إثر ساعة.
كل عابر فيها اليوم سيقول كلمة واحدة، كلمة قصيرة، مقتضبة: بغداد بدلة أنيقة على جسد نحيف، ضامر، مريض. الجسد النحيف الضامر المريض هي الأحزاب الدينية التي تحكمها الآن.أمر موجع للقلب ما يعاينه راكبُ سيارة الأجرة، وهو يتنقل بين ضواحيها، لا، أبداً لم تكن بغداد هكذا من قبل، حتى في أيام محنتها الأشد ضرراً بجسدها، لم تكن هكذا، الصور والشعارات والبيارق، سلوك أناسها والمفردات واللهجة التي يتداولها غالبية سكانها لا تفصح عن بغداد التي في الخيال العراقي والعربي، هنالك بغداد أخرى يتعمد البعض عرضها علينا، كان سائق التاكسي الذي أقلنا من شارع ابي نؤاس الى المتنبي قد وشم كفيه وأصابعه ومن ثم جسده كله بما ليس في بغداد بشيء منه، كانت يافطات المحال التجارية وأسماء أصحابها لا تمت لبغداد بأية صلة، كان الناس لا يتبغددون أبداً.
قبل ستة أشهر مررت بالأعظمية، الضاحية الأشهر في بغداد، عنوان المدنية العراقية الغابرة، كتاب التبغدد والأناقة الذي أنطوى، ولم يعد يفصح عن أكثر الاشياء في الدنيا جمالاً وعذوبة. رأيتها هالكة، شوارعها محفورة وأهلها خائفون، هل أقول بان حكام بغداد اليوم ليسوا منها بشيء، أو هم دخلوها في غفلة من التاريخ، نعم، سأقول ذلك، وليقدم دليله وبرهانه كل من لديه البيان والحجة علي. لا يمكن لقادة حزب الدعوة أو المجلس الأعلى او الحزب الاسلامي أو التيار الصدري ولا لأي جهة ادينية ولا لغيرهم حتى، إدارك المعنى الحقيقي لمفردة جميلة مثل بغداد والبغددة والتبغدد، هم عاجزون عن فهمك أيتها العاصمة العظمى.
قلت لصاحبي : لو كنتُ مسؤولا في بغداد، لمنعتُ سير كل مركبة وسخة، غير ملونة، لم يغسل صاحبها إطاراتها، ولمنعت سير كل من يرتدي دشداشة سوداء بنعالٍ بالٍ أخرق، ولأزلت عن جدرانها كل شعارات القتل والموت وصور الطواطم والمسوخ، لأستبدلت أسماء حاراتها وشوارعها وجسورها الجديدة بأسماء الزهر والطيور والموسيقى والنبيذ، لأرغمت الناس فيها على المجيء الى دجلتها مساء كل يوم، ولجعلت من حدائقها ومتنزهاتها أماكن للسهر والعشق والغناء، لرسمت على اعمدة الكهرباء فيها صور أمرائها المنتصرين، لرسمت وكتبت على حيطانها أسماء وصور نسائها الجميلات، لأنتقيت من بطون تواريخها كل ما هو أبدي واسطوري وخالد كنىً والقاب لساحاتها .. ولوقفت في منتصف شارع أبي نؤاس أوميئُ للداخلين والخارجين، أنْ قفوا: هنا تتراجع المدن والقصبات والبوادي وتتبختر بغداد العظيمة وحدها.
تقول زميلة جميلة كانت قادمة من أربيل بأنها حزينة جداً، وهي ترى بغداد على الحال هذه، فقلت وما الحال؟ تقول بأنها كانت تأتي بغداد بقميصها الأبيض الشفيف وزيّها المديني القصير وشعرها المنسرح الطويل، فلا تستفزُّ أحداً من شبابها، لكنها اليوم تخشى من سيرها مفردةً في شوارعها، وهي مرعوبة، خائفة، وإن عيون الناس تحفر في جسدها الكوى والغرزات، ثم تجهش، تقول: لا، ما كانت بغداد هكذا. هنالك شيء ما يحدث خلافا لمنطق الحياة، هنالك جريمة ترتكب بحق المدينة العظيمة. فأقول : أي ، نعم، بغداد لم تعد بغدادانا، التي كنا نأتيها لكي نتدله ونتوله ونتبغدد، هي مدينة أخرى اليوم، بعد أن استباحها القادمون من أقاصي براريها وأهوارها وجوامسيها، اسسوا القرى والقصبات والمضارب والجوادر على أطرافها، ثم دخلوها حكاماً، فاتحين. قلت وهل كان الجبوري والصدر والعبادي والمالكي والحكيم وووووو من اهلها؟ فقالت: لا، لا، لا،هم لا يعرفون عن بغداد شيئاً!
بغداد التي لم تعـد تتبغـدد
[post-views]
نشر في: 21 مايو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...