TOP

جريدة المدى > عام > قصة قصيرة: الشرف المقتول

قصة قصيرة: الشرف المقتول

نشر في: 23 مايو, 2016: 12:01 ص

تروي تلك المدينة الصغيرة الكثير من القصص، ولأن حدودها قريبة من بعضها، لذلك تبقى القصص بمختلف عناوينها أسيرة هذا الإطار الضيق الذي يسورها..اناس بسطاء تعودوا روتينهم اليومي واحبوه كما هو، يرعبهم التغيير، حتى وان كان لصالحهم، انهم يخافون كل شيء، لأن الم

تروي تلك المدينة الصغيرة الكثير من القصص، ولأن حدودها قريبة من بعضها، لذلك تبقى القصص بمختلف عناوينها أسيرة هذا الإطار الضيق الذي يسورها..
اناس بسطاء تعودوا روتينهم اليومي واحبوه كما هو، يرعبهم التغيير، حتى وان كان لصالحهم، انهم يخافون كل شيء، لأن المدينة استقرت على ما هي عليه، ولا تريد ان يتعكر صفو الاستقرار فيها بأي شكل كان.
تصحو المدينة صباحا على حركة نشطة، تتراوح بين ذاهب للدوائر الرسمية، وهي قليلة في المدينة، أو متجه الى دكانه في السوق الذي لا يوجد غيره فيها، أو للحقل في مزارع شاسعة تمتد خارج حدودها، حقول هي مصدر رزق وعيش للكثير من سكانها، وحزام أمان لها ولسكانها..
قصص المدينة تتحدث عن بيت الشيخ وأولاده السبعة وأختهم الوحيدة، وربما عن شهامة هذا، او بؤس تلك، هذا الغني وذاك الفقير، عن الامراض التي تنتشر كثيرا، لبساطة الحياة في المدينة، لخلوها من ابسط الشروط الصحية...
يهتز عالم المدينة لابسط حدث: ولادة طفل، زواج او موت احدهم، بناء بيت، نجاح ابن احدهم وتخرجه من المدرسة المتوسطة. لانه لا وجود لمدرسة اعدادية في تلك المدينة، بل يذهب من تخرج الى مدينة اكبر مجاورة لها..
قلما تسمع فيها قصص الحب، وكأن الحب نسي تلك المدينة، منذ ظهورها وحتى لحظة حدوث الكارثة التي اقضت مضجع الكل، وبقيت تلك الليلة تسكن احلام وكوابيس الرجال والنساء.. الاطفال يتحدثون عنها بما يسمعونه من اطراف الحديث، وكأنها من قصص الجان..  هذا الحدث ادخل المدينة في سكوت امتد لاسابيع، حتى التحايا بين الناس، صارت همسا...
****
وصل المدينة رسام،  علي ابن الحاج جاسم، غادرها  منذ كان صبيا يافعا، وعمل فترة ليست بالقصيرة في العاصمة بغداد، حيث كان ينوي الاستقرار فيها، ليبدأ حياته الجديدة بعيدا عن مدينته، حالما بمجد سيصنعه في عاصمة العجائب التي اذهلته منذ ان وطئت قدماة بغداد.
  كان ابوه يعمل عند شيخ القرية، (كمستشار) مالي وقانوني، رغم انه غير متعلم، لكن الشيخ يثق به، لامانته، ولان قرابة تربطهما من بعيد، فعيّنه عنده مقابل راتب بسيط ليعيل عائلته الكبيرة.. لكن ابنه (الرسام) لم ترق له تلك الحياة فأخبر والده ذات ليلة، انه سيذهب الى العاصمة بغداد، وسيبحث عن عمل، وما ان تستقر اموره، سيرسل في طلبهم، ولما رفض والده ترك القرية، اقترح على الاب ان يقوم على الاقل بمساعدته ماديا عندما يتمكن من ذلك...
غادر علي في تلك الليلة، وامتدت فترة بعده عن العائلة لاكثر من خمس سنوات، دون ان يبعث بأي خبر او عون. لعائلته..
عاد بعدما صار اكبر مما تصوره أبوه وأمه، درس في العاصمة، وعاش أسوأ ظروف معيشية، لم تكن تكفيه لسد رمقه، لكنه استطاع ان يكمل دراسته، في قسم الفنون التشكيلية...
الرسم! ما الذي تعنيه تلك الكلمة لمدينته الصغيرة، التي تعرف فقط، ان العمل يعني ان تكون موظفا، فلاحا، عاملا، او حتى خادما، لكن ليس رساما!!
سمع الاب ما رواه ابنه عن الحياة في العاصمة بغداد، ولم  تعجب الاب كلمة الرسم، فسأل:
- هل الرسم يطعم خبزا؟
سكت الابن، ولكي يقنع اباه بما تعلمه، قال له:
- يمكنني ان اعمل كمعلم رسم.. رد الحاج جاسم بحسرة:
- ان شاء الله ابني .. ان شاء الله، سبحانه وتعالى  يعرف ما كُتب لنا وما علينا.
بقي علي في المدينة فترة ليست بالقصيرة، صار محط انظار الجميع بشعره الطويل وبنطاله الضيق.. شاعت اخباره في المدينة، التي وجدت ما تلوك به، فقد كانت جائعة لاشاعة ما، او قصة، لان قصصها بدأت تقل، فحدود المدينة، كما قلنا قريبة جدا من بعضها...
رآها في احد الايام، داخل سوق المدينة، عندما زار صديقا قديما له..  تسير مع امرأة كبيرة تغطي كامل وجهها ببرقع اسود.. لكن الشابة كانت مكشوفة الوجه.. متوردة الخدود وكأنها طفل ولد للتو.. عيونها يقظة كأنها الصبح رغم سوادها.. وتحت عباءتها اختبأت ظفيرة شعر طويل جدا.، بان شكلها من تحت العباءة..  يسير خلفهما صبي صغير ملابسه دونهما مستوىً، واضح انه لا يمت لهما بصلة، لكنه يحمل لهما اغراضهما...
اقتربتا منه، نظرت الشابة في عينيه، وبقيت حتى تجاوزته، استقبلت عيناه نظراتها، وتابعتها حتى بعد ان تجاوزته، ظل ينظر الى ظهرها، عندها استدارت نحوه فتلقف نظرتها تلك، واختزنها داخل قلبه!
ارتجف قلبها لمرأى هذا الغريب، ذي الشعر الطويل، الذي يختلف كليا عن كل ابناء المدينة، فهي لم تره من قبل..
ارتجف صدره من خفقان القلب، ارتعشت اليد ... وسأل صديقه:
- من هي؟ رد الاخر مبتسما بخبث..
- اياك.. اياك، انها حليمة بنت الشيخ! وحيدة ابيها مع سبعة اولاد، الاصح سبعة ذئاب مفترسة تحيط بها...
طال بقاؤه في المدينة، وعرف كل مكان تذهب اليه، او تمر منه، بل حتى تجرأ واقترب من بيتهم..
رآها مرة، عبر فتحات صغيرة لحديد مشبك في سياج دارهم، جلست في الحديقة مع امها. لاح له شعرها الطويل يلمع تحت وهج اشعة الشمس، نثرته على ظهرها فغطى  كامل جسدها من الاعلى، تبدو بدون العباءة انحف كثيرا عما بدت عليه وهي تلبسها.. ظل واقفا امام السياج، ينتظر شيئا ما، لا يعرف ما هو لكنه تخيل ربما تكون اشارة منها..
وقفت برهة أمام أمها ،ثم استدارت متجهة الى مبنى الدار، ثم التفتت لنداء امها. عند ذاك انتبهت له.. ظلت واقفة قبالته، لم تتحرك، جمدت في مكانها، وتحول هو الاخر الى ما يشبه جذع شجرة غُرس في الارض. ظلا بمواجهة بعضهما لفترة، ثم فزعت هي حينما سمعت امها وهي تقول:
- ما الذي حصل لك، شيطان تلبسك؟!.. ردت بصوت خفيض..
- بل عشقا تملكني!
يحوم لايام وايام حول دارهم، وهي تنتظر تلك الاشارات البسيطة بينهما، تتخيل صوته، ويسمع هو همسها له.. نظرات ساخنة تعترضها الحجارة أو طابوق السياج، الحديد المشبك، والأدهى من كل ذلك، خوف مما سيحصل لو رآها من في الدار، ولاحظ وقوفها المستمر في المساحة الكونكريتية التي تفصل بين باب الدار وسوره..
تحركت المدينة، وباتت تحكي عن قصة مختلفة.. فالرسام ذو الشعر الطويل محط انظار الكل.. وقصته شغلت سكون المدينة.. والطرف الاخر من القصة هي بنت الشيخ وليس غيرها..
يوم زار دكان صديقه في السوق، حذره الاخير، ان امره بدأ ينكشف، وعليه ان يحذر.. فقال علي:
- لم افعل أي شيء، لم اسمع صوتها حتى الان، انا احلق فقط  كطائر مرعوب حول دارهم، رغم يقيني ان صيادي يكمن خلف سوره.
في احد الايام اثناء عودته الى دارهم، سمع صوتا يناديه التفت نحو مصدر الصوت، رأى من بعيد فتاتين تختبئان خلف ضبابية وقت الغروب، حينما ركز نظره، ارتجف بشدة، كانت حليمة، ومعها فتاة اخرى...
أي فخ هو فيه الان، فهو حائر بين قلبه وعقله، بين عشق وحذر، بين ارتعاشه الخوف وارتعاشة رغبته بها..  لكنه ايقن انه يريدها...يريدها مهما حصل وليكن ما يكن، وعرف ذلك حينما اسرع نحوهما حتى دون ان يتلفت حوله ليرى ان كان هناك من يراه..
سمعها وسمعته،.. احبها واحبته.. ارتجفا خوفا وحبا.. نسيا المدينة، التي توسعت حدودها وصارت اكبر من كل المدن.. ارتفعت السماء فيها اكثر من ارتفاعها في غيرها.. ازدادت الشمس توهجا.. بل صارت تشرق لاكثر من مرة في اليوم.. والتقى في تلك المدينة الشمس والقمر في نفس الوقت... طال ليل المدينة عن سابق اوقاته، لأن ليل المدينة عرف الحب الان..
ذابا بعشقهما، ونسيا الخوف... لم يباليا بأي شيء.. عاشا حبهما كما كان يريد الحب ان يكون.. انصهرا معا.. تلاحما وتداخلت اجسادهما.. تغطى بشعرها وتغطت بحبه وبدفئة..
انتشر العشق.. صارت المدينة تزهو بجمال لم يره سكانها قبلا..  اثمرت الحقول اضعاف ما كانت تدره اشجارها في سنوات مضت.. الكل اختلف، وجوه بعضهم عاد اليها شبابها، فهواء الحب انقى هواء عرفته البشرية.. ازدهرسوق المدينة، فالخير قد عم.. الكل عاشق ضمن هذه الحدود التي كانت قريبة من بعضها وابتعدت الان لتصبح عالما ترفرف فيه القلوب، ليتصالح الناس مع بعضهم.. سعادة غمرت الجميع، عيد ترن اجراسه في القلوب.. فرح انتشر فصار رداء كل من في المدينة..
****
يوم قرر العاشقان ان يرتبطا.. ذهب علي الى السوق ليشتري لها الهدايا.. جلس قرب دكان صديقه، امامه علب الحلوى وصناديق ورقية صغيرة ملونة، واقداح شاي مذهبة في علبه عليها رسم كيوبيد الحب.. هداياها تجمعت امامه.. سيكونا معا في الايام القريبة المقبلة.. حبهما سيتخطى حواجز الحذر والخوف.. ستكون له.. خياله عالم يتسع ويتسع، وصورتهما معا تتجسد امامه كلوحة لم تكتمل بعد..
اثناء تكون تلك اللوحة سمع ضجيجا، ومن بعيد، رآها تركض مسرعة نحوه، لم ير ابدا من حولها وما خلفها اوفوقها..لدهشته.. كانت تركض وتركض، تلوح بيد للاعلى وتلطم  بالثانية صدرها، اذهله الموقف.. وقف ليركض متجها نحوها، حرك خطوته الاولى ثم الثانية،  مد يده ليمسك بروحها الجزعة والراكضة باتجاهه، لكن الاخر انقض عليها، وسط ذهول كأنه  شحنة كهربائية صعقت الكل،
طعن بسكينه قلبها الذي احبه،
وطعنة اخرى في نحرها الذي قبله،
وثالثة في صدرها الذي خبأ اسراره فيه،
ورابعة، في بطنها التي كان يريد ان يتشكل فيها ابنهما
وخامسة في حبهما الذي لم يكتمل...
 ركض علي لكنه تعثر بجزعة فسقط قربها ، سال دمها بغزارة من شقوق طعنات السكين، تناثرت ببطء الزهرات التي كانت تطرز فستانها، شحب لون وجهها بعد ان كان براقا بحبهما.. تغطت يداه بدمائها رفع يدا نحو السماء صارخا، وبدأ برسم لوحته الاولى،  وهي عبارة عن صدر شقه السكين، يحمل حبا فتيا...القتيلة محاطة بمدينة غزاها الليل ولم يزرها النهار بعد ذلك اليوم، وضاقت حدودها حتى اوشكت ان تختفي من الكون..
لوحة لونها احمر فقط،  داخلها موت تجسدت فيه قوة السلطة العمياء، وضعف البراءة تحت رحمة جهل قاتل.. لوحة الشرف المقتول..

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram