TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شكراً للروي أن لنا حياة

شكراً للروي أن لنا حياة

نشر في: 24 مايو, 2016: 09:01 م

1-3
يحلو لوالدي أن يفتخر دائماً، أن أول عرض سينمائي شاهده في حياته، هو فلم "كل شيء هادئ في الميدان الغربي" المأخوذ عن رواية أريش ريمارك، في سينما غازي في مدينة العمارة. الفلم المضاد للحرب الذي أُنتج في أميركا عام 1930، والذي حاز على جائزة الأوسكار لأفضل فلم، أنتجته هوليوود بنسختين، واحدة صامتة، والنسخة الأخرى ناطقة، رغم أن والدي كان ما يزال صبياً (الفلم عُرض خلال الحرب العالمية الثانية) وأنه شاهد النسخة الصامتة، لأن سينما غازي التي افتتحت في المدينة للتو، والتي كان ذلك أول عرض لها أيضاً، لم تكن تملك تكنيك الأفلام الناطقة بعد، إلا أن الفلم كما يبدو ترك أثراً في حياته، لأنه بعدها بسنوات، عندما سيكبر والدي وتُستدعى مواليده للخدمة العسكرية، عندما يُخير بين أداء الخدمة الإلزامية أو دفع مبلغ بديل عنها، سيختار دفع البدل النقدي الذي سمحت به حكومة الملك، رغم أن عائلته كان عليها أن تقترض المبلغ، كان المبلغ أربعين ديناراً كبيراً لها في ذلك الوقت، ورغم أن البلاد لم تكن في حالة حرب، ببساطة لم يشأ والدي لبس البدلة العسكرية، كما أخبرني لاحقاً، دون أن يدري، أنه بقراره ذلك، كان يسير على خطى الجندي الألماني القادم من مدينة أوسنيبرك (مدينة اريش ريمارك) باول بويمر في فلم "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، لا أظن أن والدي كان وحيداً في مقته للبدلة العسكرية ورفضه الحرب، كما فعل جندي أريش ريمارك، بالتأكيد شاركه في موقفه ذاك الآلاف على طول الأرض وعرضها، كل أولئك الذين قرأوا رواية أريش ريمارك التي حملت نفس العنوان أو شاهدوها على الشاشة فلماً. ماذا لو قرأ كل العالم "كل شيء هادئ في الميدان الغربي"، ولم يذهبوا إلى الحرب؟ ألا يصبح القصّ في هذه الحالة انقاذاً للعالم؟
أريش ماريا ريمارك نفسه صرح ذات يوم، أن الأدب يقف مكتوف الأيدي، عاجزاً أمام الكارثة، ربما قال ذلك تواضعاً بسبب حجم الكارثة النازية التي حلت مثل طاعون على المانيا والعالم، أو ربما أنه مثل كل أسطوات السرد العالمي، أراد التحذير، أن ما يرويه ممكن أن يكون عاجزاً عن رواية ما يحدث على أرض الواقع، رواية ما هو غير قابل للروي، لأن ريمارك نفسه لن يتوقف بعدها عن كتابة القصص والروايات، بالتأكيد كان يعرف في داخله، أن ما يرويه من قصص تصل رسالته، على الأقل في تصوير حقيقة ما يدور في خنادق الجنود على الجبهات، أو ما يعيشه الهاربون من جحيم النازية وويلات الحرب، على عكس ما تصوره النشرات الأخبارية والبروبغندا الرسمية، وهذا وحده يكفي لأن نقول: أن الأدب، رواية القصص تستطيع تغيير مسارات حياة إنسان، كأن يرفض الذهاب لأداء الخدمة الإلزامية، كما فعل أبي، وفعل معه الآلاف، أو كما فعلت أنا لاحقاً، عندما هربت من الجيش ومن البلاد بعد اندلاع الحرب مع إيران، صحيح أن السرد لا يصرح علناً، بأنه يريد تغيير العالم، لكنه من الناحية الأخرى يحملنا على رؤية قضية، أبعد من تلك القضية التي يضعها أمامنا. وتلك هي قوته. ريمارك، لم يقل، لا تذهبوا إلى الحرب، لم يقل انزعوا الزي العسكري، بل أرانا قصة الجندي باول بريمير ويأسه على خطوط الجبهة وهو يواجه الوحشية والقذارة والموت. وذلك وحده يكفي، الباقي علينا نحن اكتشافه، ذلك ما عرفه النازيون: خطورة القص، أول كتّاب ألقوه إلى النار، كان رواية "كل شيء هادئ في الميدان الغربي".  
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. ميرفت الخزاعي

    مقال جدا رائع استمعنا اليه بصوت وروح الكاتب شخصيا

  2. ميرفت الخزاعي

    مقال جدا رائع استمعنا اليه بصوت وروح الكاتب شخصيا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: سياسيو الغرف المغلقة

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

السردية النيوليبرالية للحكم في العراق

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

لماذا نحتاج الى معارض الكتاب في زمن الذكاء الاصطناعي؟

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

 علي حسين ما أن خرج الفريق عبد الوهاب الساعدي ليتحدث إلى احدى القنوات الفضائية ، حتى اطلق بعض " المحلللين " مدفعيته تجاه الرجل ، لصناعة صورة شيطانية له ، الأمر الذي دفع...
علي حسين

باليت المدى: شحذ المنجل

 ستار كاووش مازال الوقت مبكراً للخروج من متحف الفنانة كاتي كولفيتز، التي جعلتني كمن يتنفس ذات الهواء الذي يحيط بشخوص لوحاتها، وكأني أعيش بينهم وأتتبع خطواتهم التي تأخذني من الظلمة إلى النور، ثم...
ستار كاووش

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

محمد الربيعي يضع العراقيون امالا كبيرة على التشكيلة الوزارية الجديدة، المرتقب اعلانها قريبا، لتبني اصلاحات جذرية في مؤسسات الدولة، وعلى راسها التعليم العالي. فهذا القطاع الذي كان يوما ما منارة للعلم والمعرفة في المنطقة،...
د. محمد الربيعي

مثلث المشرق: سوريا ومستقبل الأقليات بين لبنان والعراق

سعد سلوم على مدار عقود، انتقلنا من توصيف إلى آخر: من "البلقنة" في سياق الصراعات البلقانية، إلى "لبننة" العراق بعد التغيير السياسي في أعقاب إسقاط نظام صدام حسين، وصولًا إلى الحديث اليوم عن "عرقنة"...
سعد سلّوم
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram