TOP

جريدة المدى > عام > صدر عن المدى: مستقبل الرواية الحديثة.. مدخل معاصر

صدر عن المدى: مستقبل الرواية الحديثة.. مدخل معاصر

نشر في: 28 مايو, 2016: 12:01 ص

ستبقى الرواية أبداً شكلاً فنياً ساحراً؛ كأنه القصر المسحور، له نوافذ وأبواب بلا عدد، يطل على البحر والصحراء، على الغابات والبشر، على التاريخ والمستقبل والسماء، ودائما ما تمثل الرواية الرائعة حالة فريدة لا تتكرر، تمثل تجربة قراءتها بالنسبة لي وكأني دخ

ستبقى الرواية أبداً شكلاً فنياً ساحراً؛ كأنه القصر المسحور، له نوافذ وأبواب بلا عدد، يطل على البحر والصحراء، على الغابات والبشر، على التاريخ والمستقبل والسماء، ودائما ما تمثل الرواية الرائعة حالة فريدة لا تتكرر، تمثل تجربة قراءتها بالنسبة لي وكأني دخلت قصراً مسحوراً لا أعرف من أي باب أخرج. من مزايا الرواية الجميلة أنها تجمع في خلطة جديدة بين السيرة الذاتية والشعر والتأمل الفلسفي في بناء سردي درامي محكم.. هكذا تكون الرواية بالنسبة لي، والعهدة على ذائقة صاحبها.

ويكاد الفن الروائي، من بين فنون عديدة ومختلفة، أن يكون الاشتغال المعرفي الوحيد بين الاشتغالات الأدبية، الذي طاله الارتقاء المتواصل بلا انقطاع إلى جانب فن السيرة الذاتية الذي يمكن عده بشكل من الأشكال رواية ذات سمات خاصة، وربما كان الفن السابع (السينما) وبعض مجالات الفنون الجميلة والفنون البصرية هي المجالات الوحيدة التي نافست فن الرواية في تطوره الجامح بلا حدود.
مع الولع بالرواية وطغيانها كشكل أدبي جمالي وسم القرن العشرين، وما زال مرشحا للاستمرار والبقاء لقرون قادمة، صار البحث في طبيعتها الجمالية وانشغالاتها المعرفية والوجودية واحدا من أهم مباحث النظرية النقدية وتاريخ الأفكار وتاريخ الأنواع الأدبية. وتكاثرت بشكل ملحوظ الكتب التي تتناول الرواية؛ تاريخا وشكلا، تقنية وتفسيرا.. إلخ حتى تكوّن من ذلك الركام آلاف الكتب (دون مبالغة) في كل لغات الدنيا..
حديثاً، وعن دار المدى، صدرت الترجمة العربية من الكتاب الموسوعي:
« The Modern Novel : A Short Introduction» أو «الرواية الحديثة: مقدمة قصيرة» لمؤلفه جيسي ماتز أستاذ ورئيس قسم اللغة الإنجليزية في كلية كينيون الأمريكية، والمحاضر في نظرية الرواية بجامعة هارفارد لسنوات طويلة.
يمكن اعتبار هذا الكتاب (يقع في 416 صفحة من القطع المتوسط) الذي ترجمته وقدمت له لطفية الدليمي، تركيباً من مباحث عدة فهو يتناول جوانب من نظرية الرواية الحديثة وفلسفتها في الفصول الأربعة الأولى منه، كما يتناول علاقتها بالعالم المعاصر في الفصول التالية. وتقول المترجمة في تقديمها المفصل إن الكتاب يقارب هذه الموضوعات بطريقة سلسة هادئة ومن دون مغالاة في التفصيلات التقنية والتخصصية (التي يعسر على كثيرين التعامل معها) وفي سياق يتناغم مع مبحث تاريخ الأفكار.
بررت لطفية الدليمي عنونة الترجمة العربية للكتاب بـ«تطور الرواية الحديثة»، وليس الترجمة الحرفية المباشرة للعنوان في الأصل الإنجليزي،
لأنه يتناول الرواية الحديثة في سياق تطوري ارتقائي منذ بواكير نشأتها الأولى وحتى وقتنا الحاضر، لم يكتف الكتاب بالاشتغال على الرواية الحديثة فقط (كما يوحي بذلك عنوانه)، بل تناول في أحد فصوله مدخلا موجزا لرواية ما بعد الحداثة كما تناول في فصل آخر مقدمة موجزة للرواية ما بعد الكولونيالية؛ ولا يخفى ما لهذين النمطين الروائيين من طغيان متعاظم وأهمية حاسمة في اللحظة الراهنة.
يقول مؤرخو الرواية إن روائيي القرن التاسع عشر كانوا يكتبون لأنهم يعرفون أو يعتقدون أنهم يعرفون، ولذلك كانت رواياتهم تقدم إجابات صريحة وقاطعة عن الإنسان والكون والوجود وأسئلته، أما كتّاب الرواية في القرن العشرين، فإن دافعهم إلى الكتابة هو أنهم «حائرون» ولا يعرفون، ولذلك فإن رواياتهم ليس إلا مجرد أسئلة كبيرة معلّقة في الهواء.
جسدت تجارب وأعمال فيرجينا وولف وجيمس جويس ومارسيل بروست هذه الحيرة المعلقة، وأصبحت أعمالهم علامة فارقة ومهمة بين مرحلتين متمايزتين في تاريخ الرواية؛ مرحلة الشكل الراسخ الكلاسيكي التقليدي بيقينه وكليته، وبين مرحلة تفتيت هذا الشكل وتحطيمه وظهر ما أسماه النقاد ومؤرخو الرواية بـ «الرواية الجديدة» أو «الرواية الحديثة» وفي تسميات أخرى  "روايات الحداثة".
يتخذ الكتاب من مجال الرواية الحديثة نقطة انطلاق لاشتغالاته المعرفية وتحليلاته الجمالية، يتوقف عندها تفصيلا، ويحلل بعضا من أعمالها، لكنه لا يتوقف حد تخومها، بل يتجاوزها إلى مناطق جديدة في مسيرة الرواية الحديثة لم تنل الاهتمام الكافي ولم تسلط عليها أضواء النقد والتاريخ كما ينبغي (تكاد تكون أيضا من المناطق البعيدة عن اهتمامات القارئ العربي) .
من هنا تظهر أهمية الفصول التي عقدها جيسي ماتز لمعالجة ما أسماه الرواية ما بعد الحداثية، والرواية ما بعد الكولونيالية ورواية التعددية الثقافية بأجنحتها الثلاثة: الرواية التي تعتمد على الموروثات الشفاهية البدائية، والرواية المهاجرة، ورواية جماعات الأقلية. وأخيرا ما أطلق عليه الرواية الرقمية.
يقول المؤلف في فصله التمهيدي (أي حداثة؟): إن موضوع هذا الكتاب يتأسس على مناقشة موضوعتي (لماذا؟) و(كيف؟) لبست الرواية لبوس الحداثة، ويمكن عدّ هذا الكتاب بمثابة مقدمة إلى أشكال الرواية الحديثة والوظائف التي تنهض بها إلى جانب مساءلة الدوافع، والتقنيات، والمعضلات، والتطور المرتبط بالرواية الحديثة.
إن المقصود من الكتاب أن يكون أشبه بخارطة كلية وشاملة تؤشر للقراء الشغوفين ما ينبغي عليهم استكشافه بكثير من التدقيق. أو بعبارة أخرى، رسم أوضح صورة ممكنة للرواية الحديثة ذاتها، وجعلها أكثر قدرة على التداول بين القراء. لكي تتماشى الرواية مع الأوضاع المستجدة كان لزاما عليها هي الأخرى أن تفجر سياق الاستمرارية مع الماضي، وأن تنشطر إلى أشكال مستحدثة، أي تشهد تغييرا مستديما كذاك الذي شهدته الشخصية الإنسانية والحياة، ومنذئذ صارت الرواية تُدعى (الرواية الحديثة).  
في مقدمتها التفصيلية للترجمة العربية، قدمت لطفية الدليمي تحليلا ممتازا للسياق الثقافي والجمالي الذي أنجز فيه الكتاب، وقدمت أيضا استخلاصات نافذة لأهم أفكاره وموضوعاته، وتوقفت عند منهجه ورؤيته وكشفت عن المساحة الزمنية الهائلة التي حاول مؤلف الكتاب استيعابها وتغطيتها بالاعتماد على كم ضخم من الروايات التي بذل مجهودا كبيرا في قراءتها أولا، وتصنيفها ثانيا، وفي استقراء ملامح عامة وخيوط نظرية لتطور الرواية الحديثة ومن ثم إمكانية التنبؤ بمستقبلها أو استقراء مساراتها المستقبلية المحتملة، ثالثا. سيجد قارئ الكتاب، كيف يتنقل مؤلفه ببراعة ورشاقة بين أعمال وروايات كتبت على فترات زمنية متباينة وفي أماكن شتى من العالم في سياق رابط موضوعي محدد، لا يغيب عنه، ولا يفقد بوصلته، ولهذا سنجده يراوح بين أسماء فيليب روث، ودافيد فوستر والاس، وتوني موريسون، وجي إم كوتزي، وكازو إيشيغورو، وبول أوستر، وتشينوا أتشيبي.. وغيرهم كثيرون.
يمكن القول بثقة راسخة إن هذا الكتاب يمثل منصة جيدة للانطلاق نحو دراسة موضوعات أكثر تقدما وتخصصا في نظرية الرواية الحديثة وتقنياتها وتاريخها ومآلاتها الأكثر حداثة ومعاصرة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram