تخيلوا معي شخصاً، لم يدرس الطب ولم يكن ممرضاً ذات يوم وليست له دراية بالجراحة، أن يقوم بتنفيذ عملية جراحية دقيقة لشخص آخر. هل يمكن حدوث ذلك دون أن يعرّض طبيبنا المزعوم حياة المريض الى خطر أكيد؟ وهل يستطيع رجل ما على سبيل المثال، ليس له إلمام ولا ممارسة أو معرفة بتفاصيل النجارة أن يصنع لنا كرسياً جيداً من الخشب بدون أن تظهر بعض التشوهات وعدم التناسق هنا وهناك؟ سأطرح الموضوع من جانب آخر، خالتي تعرف الحروف العربية من الألف الى الياء بالضبط كما نعرفها كلنا وعرفها السياب أيضاً، لكن هل تستطيع أن تكتب بنفس هذه الحروف شيئا بمستوى أنشودة المطر؟ وهذا هو حال جارتنا أم كريم حين نقارنها مع نازك الملائكة. هل في قدرة انسان ليس له علم بمواصفات الكتابة الصحفية مثلاً ولا بعدد الكلمات التي يحتاجها المطبوع، ولا يعرف قواعد اللغة أن يكتب مقالاً أو عموداً أسبوعياً في جريدة ما؟ هل بإمكان شخص لا يجيد شيئاً من كرة القدم أن يلعب في نادي ريال مدريد بالمصادفة؟ هل يمكن لإنسان صوته قبيح وفيه نشاز كبير أن يكون مغنياً دون أن يُكتشف من أول وصلة؟ هل بقدرة أي شخص وبمجرد المصادفة أيضاً أن يكون مؤلفاً موسيقياً مثل موزارت، فقط لأنه يدندن على آلة البيانو كيفما اتفق؟ ألا تموت الزهور وهي تحت رعاية شخص لا يعرف قيمتها وجمالها، شخص بعيد كل البعد عما تتطلبه الحديقة من رعاية واهتمام؟
هنا لا أريد أن أتكلم عن بعض الفروقات بين الاشخاص الموهوبين، فهذا يحدث في كل وقت ومكان وهو أمر طبيعي جداً ويشبه الفرق بين رجل يقول لزوجته أنك جميلة، وآخر يقول لها كم تبدين رائعة هذا الصباح، صحيح ان الفرق واضح هنا، لكن الجملتين جميلتان. قلت بأني لا أريد الحديث هنا عن الفروقات بين درجات الموهبة نفسها، بل بين الموهوبين والموهومين، بين المبدعين الحقيقيين وبين من ينزلقون بنعومة بينهم وهم يضعون قناع الموهبة على وجوههم، وهذا هو الخيط الأحمر لحكايتي هنا.
السؤال الذي يؤرقني منذ سنوات طويلة ولم أجد له جواباً مقنعاً هو أن كل ماذكرته من أمثلة لايمكنه الحدوث في هذه المجالات التي أشرت اليها في ظل أي وضع طبيعي أو قريب من الطبيعي أو حتى سيئ أحياناً، فلماذا يحدث ذلك إذن في الرسم أو الفن التشكيلي فقط ؟؟!! وحتى لا أُفهم خطأ، أنا لا أقصد هنا الفنانين الذين يقدمون مثلاً أعمالاً تجريدية جميلة وتملك مواصفات العمل الفني ولا أعني كذلك مايسمون برسامي يوم الأحد أو من يمارسون الرسم كهواية للمتعة وكأنهم يفتحون نافذة على حديقة يتمتعون بزهورها.
لماذا علينا أن نقتنع إجباراً على أن بضعة خطوط مرسومة بغير عناية أو بقعة من الحبر مرشوشة فوق القماش أو بضع خربشات حدثت بالمصادفة، أقول لماذا علينا أن نعتبرها فناً رفيعاً وهي كذبة واضحة؟ لماذا يتصدر بعض هؤلاء المشهد التشكيلي وهم لا يعرفون كيف يكون التكوين والإنشاء والمعالجة وغيرها؟ الرسم يا إخوان عالم صعب يحتاج الى موهبة وممارسة طويلة وحساسية عالية في التعامل مع المواد ومعالجة السطوح، يحتاج الى خبرة تأتي من تجربة جمالية طويلة وتمارين لاتتوقف. حين يرمي شخص ما نفسه في النهر وهو لا يعرف السباحة فهو يعرض نفسه للغرق، وهؤلاء الذين ليست لديهم مواهب، وفي نفس الوقت يحشرون أنفسهم ليتسيدوا المشهد، هم في الحقيقة يزجون أنفسهم هكذا في نهر الفن وهم يضعون أقنعة على وجوههم، لكن رغم قوة النهر وتدفق جريانه، فهم لايغرقون بسهولة لأنهم على ما يبدو قد تعودوا على تحويل هذه الأقنعة الى طوق نجاة عند الحاجة. مع ذلك سيجدون أنفسهم بالنهاية وفي ساعة الحقيقة، يطوفون على الجروف والحافات ويبقى نهر الفن جارياً يحمل معه المواهب الحقيقية والكبيرة.
المواهب الكاذبة
[post-views]
نشر في: 27 مايو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...