TOP

جريدة المدى > مقالات واعمدة ارشيف > خارج العاصمة: الرُسُل السبعة

خارج العاصمة: الرُسُل السبعة

نشر في: 25 يناير, 2010: 06:29 م

محمد خضيرما تبقى من عصر البريد القديم عدد قليل من القصص، أذكر منها "البرقية" للتشيكي سلافومير مروجيك، و"الأمر المفتوح" للألمانية إلزا إيشنجر، و"الرسل السبعة" للإيطالي دينو بوزاتي.. قبل ان تضيع الرسائل في الفضاء السيبراني، وتأتي الرسائل الإلكترونية على نظام المراحل الأرضية، وتعطل الحواسيب عمل السعاة بين المحطات والمطارات وخانات السفر.
 قيل في كتب الحكمة أن عالماً مكنون في حبة رمل،وأقول أن عالماً آخر مرموز في ختم طابع بريد، والجوهر ذاته مطويّ في علائم صغيرة مماثلة. ومهما اختُصرت العوالم، وتقاربت المسافات، فلا شيء يعوض عن الرموز الجوهرية التي دفعت الإنسان إلى السفر والاستكشاف. كنت هاوياً لجمع طوابع البريد،وصرت أتوق إلى محاكاة نظام البريد القديم، في عمل قصصي ذي طابع رمزي وجوهري يختصر حياة آلاف الأشخاص والأجيال والأمم في دورة رسالة واحدة. وحتى يحين دوري في لعبة المسافات والمراحل، أحب كثيراً أن أجمع في طريقي رسائل السُعاة العظام الذين سبقوني إلى كنه ذلك النظام،ومنهم الإيطالي دينو بوزاتي صاحب"الرسل السبعة". عالم دينو بوزاتي خيالي مرصوص العناصر، قوي الحجة، يأخذ الإنسان فيه دوره المحسوب سلفاً، دون إرادته التي تقررها الظروف والأحوال،بذلك تدهشنا قصة "الرسل السبعة" حين تبرهن على المكافأة بين أسماء الشخصيات وأدوارها المرتبة. يرحل الأمير ليكتشف مملكة أبيه،عند بلوغه السنة الواحدة والثلاثين،بصحبة سبعة رسل مخلصين ينقلون أخبار الرحلة إلى العاصمة ويعودون إليه بالرسائل.وهم يؤدون مهمتهم بترتيب الحروف الهجائية التي تبدأ بها أسماؤهم (ألكسندر، برتولمو، جايو، دومينيكو، هكتور، فردريك، غريغوري).كان الأمير قد وضع في حسبانه أنه سيبلغ حدود المملكة القصوى بعد أسابيع من ابتداء سفرته، وبعد انقضاء ثماني سنوات من السفر المتصل يداخله الشك في أنه لم يقطع إلا جزءاً من المسافة،وأنه يدور حول مخيمه. وهذه هي نقطة التأمل الأولى في القصة: إن مملكة لا حدود لها هي مملكة قد لا يكون لها وجود. تتوالى نقاط التأمل أمام القارئ،فاتساع المملكة يلتهم زمان الأمير ورسله. وفيما يتقدم القارئ يتأخر رجوع السعاة ويتعاظم شعور الأمير بضياع المباهج التي تركها وراء ظهره. سافر الرسول الأول (ألكسندر) إلى العاصمة في مساء اليوم التالي للرحلة، وعاد بعد عشرة أيام. وعاد الرسول الثاني (برتلمو) الذي سافر مساء اليوم الثالث بعد خمسة عشر يوماً. والثالث (جويو) عاد في اليوم العشرين. لقد توصل الأمير بمساعدة تقويم إلى حساب مسافة سفر كل رسول والمدة التي تفصل رسولاً عمّن يليه. وهكذا فإن الرسول الرابع (دومينيكو) الذي سافر في اليوم الخامس عاد من العاصمة بعد خمسة وعشرين يوماً، والخامس (هكتور) الذي سافر في اليوم السادس عاد بعد ثلاثين يوماً،والسادس (فردريك) عاد بعد خمسة وثلاثين يوماً، والرسول السابع (غريغوري) بعد أربعين يوماً. وبعد مضيّ ستة شهور على الرحلة أصبح الفاصل بين ذهاب الرسول وعودته أربعة شهور،ثم تضاعفت إلى عشرين شهراً. ازدادت مدة الانقطاع سنوات مع توغل الأمير في مملكته، وصار الرسل يحملون إليه رسائل غريبة بهتت بفعل الزمن،بين سطورها أسماء منسية، وطرق تعبير لم يعتدها الأمير، ومشاعر لم يفهمها. يستطيع القارئ أن يتتبع رحلات الرسل على تقويم مشابه،إذا ما حدد اليوم الأول لمغادرة أول رسول، وحسب المدة المتضاعفة بانتظام وتناسب مع المسافة بين مخيم الأمير وعاصمة أبيه. ستكون احتمالات الخطأ قليلة، بل قد يقترب من أفكار الأمير وما دوّنه على هامش تقويمه من أخبار نقلها الرسل إضافة إلى تأملاتهم عن السحب والجبال والمتشردين الذين ظهروا في طريقهم. سنتصورمثله دخول الرسول (دومينيكو) خيمة الأمير منهكاً، بعد انقضاء ثمانية أعوام ونصف من مغادرته وفي يده طرد من الرسائل لم يرغب الأمير في قراءتها. سيسافر (دومينيكو) سفرته الأخيرة في فجر اليوم التالي، التي تقدرها حسابات التقويم بأربعة وثلاثين عاماً، إذ سيبلغ الأمير الثامنة والستين وربما ألفاه مريضاً أو ميتاً حين عودته. وأما الرسول الخامس (هكتور) الذي يصل بعد عام ونصف من سفر سلفه، فقد يرسله الأمير في مهمة أخرى للعاصمة لن يعود منها.بعد سفرة آخر رسول سيحل الصمت، ولن نعلم ما إذا كان الأمير قد بلغ الحدود المنشودة لمملكة أبيه،الحدود الوهمية التي يشك في وجودها،أو أنه اجتازها و تابع سيره إلى أمام. عند هذه النقطة من التأمل، يقرر الأمير أن يرسل الرسل الذين يتمكنون من الرجوع لاستكشاف الطريق أمام ركبه، بدلاً من إرسالهم إلى العاصمة خلف ظهره. "إن أملاً جديداً سيظل يجذبني غداً صباحاً، إلى الأمام نحو الجبال التي لم تُكتشف، وسأظل مرة أخرى أفكّ المخيم بينما يبدو دومينيكو،في أفق الجهة المقابلة متجهاً إلى المدينة البعيدة، حاملاً رسالتي التي لا جدوى منها". ماذا لدى القارئ الآن؟ ربما كان (دومينيكو) هو الاسم الأخير المؤشر في التقويم،وربما زحفت الإشارة إلى (هكتور) أو للرسولين الباقيين (فردريك) و(غريغوري) لتكتمل مهمة الرسل الذين أخلصوا، وقد بَرَت السُرُج أعجازهم، وأفنى البريد أعمارهم. ولم تكن مهمتهم ممكنة لولا الطريقة البارعة التي اختارها الأمير لسفرهم. كان الاختيار مشابهاً للاختيار الإلهي للرسل وال

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

حياتي وموت علي طالب

حياتي وموت علي طالب

غادة العاملي في لحظة تزامنت فيها الحياة مع الموت استعدت ذكريات عشر سنوات ،أو أكثر .. أختصرها الآن في ذاكرتي بالأشهر الثلاثة الأخيرة. حينما اتفقنا أناقرر هو أن يسافر ملبيا الدعوة التي انتظرها لأكثر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram