1-2لا أدري لماذا كلما ذكرتُ الانشودة الثالثة والثلاثين لدانتي، تطلع أمامي قصيدة "وطاوي ثلاث، عاصب البطن، مرملٍ" المنسوبة إلى الحطيئة خطأ. رغم أن ما وقع من تشابهٍ بين القصيدتين - إن كان ثمّة تشابه- هو محض صدفة. من هذا التشابه مثلاً أن كلا الشاعرين يصف
1-2
لا أدري لماذا كلما ذكرتُ الانشودة الثالثة والثلاثين لدانتي، تطلع أمامي قصيدة "وطاوي ثلاث، عاصب البطن، مرملٍ" المنسوبة إلى الحطيئة خطأ. رغم أن ما وقع من تشابهٍ بين القصيدتين - إن كان ثمّة تشابه- هو محض صدفة. من هذا التشابه مثلاً أن كلا الشاعرين يصف إنساناً يستحيل إلى وحش، ولكلّ منهما أولاد، والكلّ يعاني من جوعٍ غائلٍ ناهش... أكثـر من ذلك يقول الابن لأبيه في قصيدة وطاوي ثلاث: "أيا أبتِ اذبحْني ويسّرْ له طُعماً"، بينما يقول الأبناء الأربعة في الانشودة الثالثة والثلاثين، حينما رأوا أباهم يعضّ كلتا يديه فظنّوه يأكلهما جوعاً:" ليتك تقتاتنا، فإنك أنت الذي ألبستنا هذا اللحم البائس، ولك أن تخلعه عنا".
كلتا الصورتين نابعتان من مصدر ديني. فالأعرابي – كما رأينا – استند إلى الآية الكريمة:" قال يا أبتِ افعل ما تُؤمر، ستجدني إن شاء الله من الصابرين". أمّا دانتي فاقتبسها، ربما من سفر التكوين – الاصحاح الثاني والعشرين. إذن ما دمنا قد تورطنا في هذه المقارنة، فلنهتبلْها فرصة للنظر في هذه الانشودة وما آلياتها وتقنياتها؟ وكيف تُبنى العمارة الشعرية؟ لكن قبل ذلك قد يكون من المفيد، إعطاء نبذة موجزة هي بمثابة خلفية تساعد القارئ في فهم هذا التأليف الرفيع. في الحلقة التاسعة من الجحيم الدنيا، يشاهد دانتي ومعه فيرجل ( رأسين آثمين يخرجان معاً من ثغرة واحدة وسط الجليد. وعندما اقترب منهما وجد أحدهما ينهش مؤخر رأس الآخر. حاول دانتي أن يعرف حقيقة الأمر من صاحب الرأس الأعلى واعداً إيّاه بالتشهير بعدوّه في الحياة الدنيا ) ( عن الجحيم – ترجمة حسن عثمان وفيها شروح اوفى ). تسّمى هذه الأنشودة انشودة أوكولينو، وهي انشودة يجمع فيها دانتي بين خونة الوطن والأصدقاء، وبهذا يضع خيانة الأصدقاء بمصاف خيانة الوطن. الحكاية هي أن أوكولينو وقع أسيراً بيد الأسقف رودجيري الذي غدر به ووضعه في السجن مع اثنين من أبنائه واثنين من أحفاده. تبدأ الانشودة بأقسى المشاهد الوحشية ضراوة:
رفع فكّيه ذلك الآثم من خلف الرقبة – وجبهته المرعبة ومسحها بشعر الرأس الذي نهشه"
ومن ثمّ تكلّم : " أنت تريدني أن أستعيد حزناً عزّ له علاج مجرد التفكير فيه يهصر قلبي بالألم قبل أن أفوه به لكن إذا كانت كلماتي بذوراً تثمر تشويه سمعة ذلك الخائن الذي أقضمه فإنك ستراني على الفور اتكلم وأبكي ..."
تفاجأ دانتي أعلاه بهذا المشهد الرهيب : إنسان يأكل من رقبة انسان. بهذه الوسيلة أثار دانتي فضول القارئ، للتعرف على هذا الشخص أولاً وللتعرف على أسباب هذه الفعلة الشنيعة. لكن ما التقنية التي لجأ إليها دانتي لتصوير الإنسان وحشاً ؟ 1- الأكل من الرقبة أي من الخلف، وهذه هي طريقة الحيوانات المفترسة. 2- مسح الفكين بشعر الطريدة كما هو مسح مناقير الكواسر بالريش. 3- بالإضافة إلى ذلك، فإن دانتي لم يُرنا وجه ذلك الانسان – الوحش، وإنما صوّره من الخلف، حتى لا نتعرف عليه، وحتى يزيد من فضولنا. في المقطع الثاني إثارة للفضول أكثر، لأن الانسان – الوحش لا يعرّف بنفسه على مدى خمسة أبيات لاحقة. وفيها نجد حزناً ليس له علاج، حزناً دفيناً محصوراً، مجرد التفكير فيه يهصر قلبه ألماً. أيُّ حزن هذا؟ اذن فضول آخر. يرينا دانتي في الأبيات الخمسة كذلك عملية يستحيل فيها ذلك الوحش إلى إنسان: عقلاً وعاطفة، يظهر العقل لأنه اعتبر كلماته بذوراً ستشّوه سمعة ذلك الخائن. وعاطفة لأنه سيتكلم ويبكي، والحيوانات لا تبكي بدموع. أي أن هذا الإنسان لم يفقد انسانيته وما توحشه إلا حالة مؤقتة. إلى هنا ونحن لا نعرف عن هذا الشبح شيئاً. وفي البيت التاسع والعاشر يقول لدانتي: "... مَن ذا تكون لا أعرف، ولا كيف جئت إلى هذا المكان السحيق لكنك تبدو لى بالتأكيد من فلورنسا عندما أسمعك تتكلم."
بهذا التمييز بين اللهجات يكون ذلك الشبح الذي تصّورناه مفترساً، قد انتمى بالبرهان والدليل إلى حظيرة البشر. في هذه اللحظة فقط يقدّم نفسه على أنه الكونت أوكولينو ويقدم الشخص الذي كان يفترسه على أنه الأسقف رودجيري. ثم يسرد بعد ذلك ما وقع بينهما، وكيف خانه ووضعه في السجن مع أولاده الثلاثة وكيف ماتوا جوعاً. ما يهمنا هنا – لغرض هذه المقالة – هو كيف صور دانتي السجن مع أولاده الثلاثة، وكيف مطّط الزمن وكأنه دهور، وكيف مدّد الجوع ونمّاه، وأخيراً كيف وظّف النور والظلام، وهما عنصران أساسيان في كل سجن؟ كما هي المثابة في هذه القصيدة، لا يصوّر اوكولينو مباشرة ما عاناه والاولاد الثلاثة من جوع حتى الموت، بل يمهّد لذلك بلمحةٍ مخيفة عن السجن: من خلال شق ضيقّ في شباك عالٍ في ذلك السجن "( الذي سُمّي بعدي ببرج الجوع، ولن أكون الأخير الذي يُحبس فيه) من ذلك الشقّ راقبت أقماراً عديدة حينما نمت النوم المشؤوم فهتك لي حجاب المستقبل."
الغريب، وليس غريباً، أن أوكولينو ينفرد بالحديث عن نفسه أي أنه لا يذكر أولاده معه. لماذا؟ هل لمفاجأة دانتي وبالتالي القارئ؟ لكن لماذا الأقمار دون الشموس؟ هل كان يأرق كل ليلة؟ وهل أصبحت الأقمار وسيلته الوحيدة لمعرفة مرور الأيام البطيئة؟ هل كانت الأيام متشابهة مملّة، فاختلطت ولم يعد لها تاريخ في التقويم الإنساني؟ ( المدّة الفعلية التي قضّاها أوكولينو في السجن ثلاثة أشهر). لا ريب أن ذلك الأرق، واستنتاجاً، الخوف والهواجس، كانت تمهّد لحلم مفزع في نوم مشؤوم. هكذا انقلبت حتى نعمة النوم إلى نقمة والأدهى أن الكابوس يستمرّ حتى بعد اليقظة، لأنه هتك حجاب المستقبل عن شؤم مدمّر. إذ رأى أوكولينو نفسه وأولاده، وقد تعقّبهم رودجيري بكلابه المدرّبة الضامرة. الأب والأبناء تهالكوا متعبين. رأى أوكولينو أنياباً طويلة تمزّقهم. عندها يستيقظ من فزع ليتأكد أنه كابوس غريب: "وحينما استيقظتُ قبيل الفجر سمعتُ أولادي ينشجون في نومهم ( لقد كانوا معي ) ويطلبون الخبز."
* اعتمدنا في ترجمة الأشعار أعلاه على الترجمة الانكليزية لـ: فرانسيس كيري مع الاستئناس بترجمات إنكليزية أخرى.