2-3
في كتابه الرائع، "عالم الأمس"، يروي الكاتب النمساوي ستيفان تسفايغ، عن تجربة ما رآه من بؤس وخراب وجوع على وجوه الناس وفي المدن وهو في طريق عودته من منفاه الأول سويسرا إلى النمسا عند نهاية الحرب العالمية الأولى، وكيف أنه رأى للمرة الأولى "العدو" كما اطلقوا رسمياً في بلاده على روسيا آنذاك، ففي مدينة تارنوف صادف ستيفان تسفايغ أول عملية شحن لأسرى الحرب من الجنود الروس، "كانوا يجلسون في مربع محاط بالاسلاك على الأرض، يدخنون ويتحدثون، تحت حراسة مجاميع ثلاثة أو اثنين أكبر منهم سناً، لحاهم كثة، من جنود قوات الصاعقة التيرولية، هم الآخرون كانت ملابسهم ممزقة مثل السجناء، يشبهون بقليل الجنود البيض الحليقي الذقن بالزي العسكري النظيف، كما كانوا مصوري الجرائد المصورة في بيوتنا". الانطباع الذي يحصل عليه كاتب بناة العالم، أن لا الحراس النمساويون كانوا صارمين في حراستهم، ولا أسرى الحرب الروس أظهروا ميلاً للهروب، الطرفان جلسا، كأنهما رفاق عرفا بعضا من قبل، رغم أن الطرفين يتحدثان لغة مختلفة "كانوا يتبادلون السجائر، يتضاحكون. رجل تيرولي من فرقة العاصفة أخرج للتو من محفظة نقوده القذرة صورة لزوجته وأولاده لكي يريها "الأعداء"، الذين راحوا يتناقلونها من يد إلى أخرى مندهشين، يسألونه وهم يشيرون بأصابعهم،ـ إذا كان لهذا الطفل ثلاث أو أربع سنوات من العمر."، أمر شبيه فعله الجنديان، العراقي سلمان ماضي والأميركي دافيد باربييرو في روايتي "بغداد مارلبورو ... رواية من أجل برادلي مانينغ"، الحارس وأسير الحرب، وحدهما في ليل البرية في الصحراء. ماذا يفعلان؟ يرويان القصص لبعض، يتلوان الشعر، ويتبادلان سجائر مارلبورو وبغداد. القصص تقرب إذن حتى "الأعداء" من بعض، الحرب هي كارثة وقعت عليهم، لا يستطيعون حيالها عمل أي شيء، الاثنان تورطا فيها، فلماذا لا يرويان القصص لبعضهما؟ وهي هذه القصص التي تريهما أنهما أخوة المصير، الحرب المقدسة الأخيرة ضد النسيان هي القص، نسيان أننا بشر متساوون. بهذا الشكل يصبح الروي ليس انقاذاً للعالم، من شروره وحسب، بل أنه مكان للأخوة أيضاً، مكان للسلام!
لقد عرفت شهرزاد ذلك، وهذا ما جعلها تقرر بنفسها الزواج من الجلاد، ليس لتشفيه وحسب، لتجعله بشراً كبقية البشر، بل لكي تنقذ أخواتها في المصير، وتنقذ نفسها والعالم أيضاً بهذا الشكل، لم تجلس في البيت، تنتظر أن يأتي الدور عليها، ويطلبها الملك القاتل، شهريار، خاصة وأنها ابنة وزيره، ذات حسن وجمال، بل هيأت نفسها، قبل أن تأتيه، كانت "قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضية، قيل أنها جمعت الف كتاب من كتب التورايخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء"، لهذا كانت واثقة من انتصارها، كنزها القصص التي خزنتها، القصص التي ترويها.
الوسيلة الوحيدة لإنقاذ العالم، للبقاء على قيد الحياة، هي رواية القصص، أنا الآخر عرفت ذلك.
عندما استدعوا مواليدي لخدمة الاحتياط في تشرين الاول 1980، لم أذهب للالتحاق بوحدتي العسكرية التي كانت تقاتل على جبهات الحرب عند إيران، زورت الديباجة التي تتحدث عن تأجيل خدمتي، نقلتها عن دفتر خدمة عسكرية أحد الجنود المؤجلين، شاعر شعبي شاب عرفته من أيام إقامتي في بغداد كان يعيش هناك في مدينة الثورة مع أهله، لكنه وُلد في مدينتي العمارة، أغريته بالحديث معه أثناء خروجه من دائرة التجنيد في محلة السراي، حيث وقفت أراقب طابور الشباب من مواليدي المراجعين لدائرة التجنيد، كنا نعرف بعضنا من بغداد، دعوته إلى الجلوس في مقهى قريب.
شكراً للروي وهو ينقذ العالم
[post-views]
نشر في: 31 مايو, 2016: 09:01 م