الحكومة شبه المُعطّلة تصفِّق.. مجلس النواب المشلول يصفِّق.. سائر هيئات الدولة التي لا وجود قويّاً لها إلّا على الورق وفي الأثير، كلّها تصفِّق. معها الشعب، بعربه وكرده وتركمانه وكلدانه وآشورييه وأرمنه ومن جميع الديانات والمذاهب، يصفِّق الآن بحماسة أكبر لقواته المسلحة، بصنوفها وتشكيلاتها المختلفة، وهي تتقدم لكسر الإرهاب في الفلوجة.
لكنْ ماذا بعد التصفيق؟.. القوات المسلحة التي تخوض هذه الحرب الطاحنة ليست طائرات ودبابات ومدافع وبنادق وقنابل وقاذفاتها فحسب.. إنها في المقام الأول جنود وضباط يجترحون المآثر ويحققون المعجزات بأرواحهم ودمائهم وبالقلق والدموع والدعوات المنطلقة من الأمهات والآباء والزوجات والحبيبات والأبناء والإخوة والأصدقاء.
هؤلاء، وبخاصة الشهداء منهم والجرحى، يستحقّون ما هو أكبر من التصفيق والأغاني والقصائد عبر الإذاعة والتلفزيون ومن الملصقات الجدارية الموزّعة على الشوارع والساحات.. لهم حقوق أخرى مستحقّة على الدولة.. هذه الحقوق لا تنحصر في الراتب التقاعدي والتعويض المالي ودار السكن أو قطعة الأرض، التي لا تحصل عليها العائلة إلا بشقّ الأنفس، فثمة حقوق سياسية لهم يتعيّن أن تكون لها الأولوية على أية حقوق أخرى.
الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودون في الحرب ضد داعش كان يمكن ألّا يكونو شهداء وجرحى وأسرى ومفقودين، وألّا يكونوا أو تكون عائلاتهم بالتالي من أصحاب الحق في الراتب التقاعدي والتعويض المالي ودار السكن أو قطعة الأرض، لو لم يدخل داعش إلى الموصل ويتمدّد منها إلى سائر المناطق على مساحة ثلث البلاد.
الأخطاء والخطايا التي ارتكبتها الطبقة السياسية الحاكمة على مدار ثلاث عشرة سنة، هي التي تسبّبت لهم في ذلك، فهم لم يكونوا راغبين في إزهاق أرواحهم أو الإصابة بالجروح أو الأسر أو الفقدان.. هذا كان أمراً مفروضاً عليهم.. الطبقة السياسية الحاكمة وضعت مصير البلاد وأهلها على كفّ عفريت، فهبَّ هؤلاء بدافع من وطنيتهم لمواجهة داعش وسواه من الإرهابيين وللدفاع عن الوطن، وكان أن دفعوا ثمناً لوطنيتهم تراوح بين فقدان الروح وفقدان الحرية.
في المقابل ما الذي على الطبقة السياسية التي دفَّعتهم هذا الثمن أن تقدّمه لهم ولعائلاتهم؟
ما يتعيّن على هذا الطبقة أن تقدّمه لن يعادل، في كل الأحوال وفي أقصاه، ما دفعه هؤلاء.. هي لن تجود بأرواح أفرادها أو دمائهم.. الثمن المطلوب منها هو التنازل عن بعض امتيازاتها المأخوذة غصباً ورغماً عن الأنوف.
في مقابل الأرواح الزاهقة والدماء المسفوكة والأشلاء المقطوعة والجراح المثخنة من أجل الفلوجة، وقبلها الرمادي وتكريت وسائر المدن والبلدات والقرى التي احتلها داعش، بفعل أخطاء الطبقة السياسية الحاكمة وخطاياها، فإن الثمن المطلوب هو الإصلاح السياسي ومكافحة الفساد الإداري والمالي والفقر والبطالة وتوفير الخدمات العامة وتنمية الاقتصاد الوطني.
هل هذا كثير وباهظ الثمن على الطبقة السياسية الحاكمة؟
إذنْ، فلتتفضل وتتقدّم بنفسها وأفراد عائلاتها صفوف محرّري الفلوجة وسواها، عوضاً عن أن تُرسِل "أولاد الخايبة" ليموتوا أو يُصابوا بالجروح أو يتأسّروا أو تختفي آثارهم، لتظلّ هذه الطبقة متنعّمة بامتيازاتها ومكلَّلة بغار النصر الذي يصنعه الشهداء والجرحى والأسرى والمفقودون وعائلاتهم!