القسم السابع: التخييل العلمي والمدّ الأصولي
شهدت رواية الخيال العلمي في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين وبواكير القرن التالي انقلاباً مثيراً للوضع الذي ساد تلك الرواية في بداياتها ؛ إذ تناقصت الثغرة الفاصلة بين التخييل العلمي الروائي والتطبيقات العلمية الميدانية بل ووصل الأمر حدّ أن رواية الخيال العلمي المعاصرة لم تعد قادرة على اللحاق بالتطبيقات الثورية التي بتنا نشهدها أغلب الأيام وبخاصة في ميدان الاتصالات والمعلوماتية والتطبيقات الإلكترونية والهندسة النانوية المصغرة وعلم المواد المخلّقة اصطناعياً ، وربما يلقي ( قانون مور ) ضوء كاشفاً على هذه الجزئية . يُخبرنا هذا القانون أن القدرة الاحتسابية للمكوّنات الصلبة في الصناعة الإلكترونية تتضاعف قدراتها كل ثمانية عشر شهراً ، وقد صدقت تنبؤات هذا القانون بشكل مدهش حتى بضع سنوات خلت عندما صار معروفاً أن الصناعة الإلكترونية تشهد تغييرات متسارعة يعجز المرء عن وصفها كل بضعة أشهر ، وليس هذا الأمر محض طروحات بحثية حسب بل أننا نشهد جميعاً أمثال هذه التغيرات في قطاع الهواتف الذكية التي أضحت رفيقاً يومياً ملازماً لغالبية البشر .
انحسرت فنتازيا الخيال العلمي كثيراً في الحقب المعاصرة وبات يُنظَر إلى رؤى الخيال العلمي بطريقة أكثر براغماتية وقدرة على التوظيف التقني مثل استخدام صواريخ الدفع النووية العاملة بالاندماج النووي في إرسال بعثات بشرية مأهولة إلى الفضاء أو في تخليق وسائل مستجدة لدراسة وظائف الدماغ البشري ومن ثم توظيف نتائج تلك الدراسات في حقل الإدراك الحسي الفائق أو معالجة بعض الاضطرابات العصبية الشائعة ( الاكتئاب مثلاً ) ، ومن المثير أن نشهد الكثيرين من مخرجي أفلام الخيال العلمي الأكثر حداثة وهم يعملون في مؤسسات علمية وهندسية راسخة مثل وكالة ناسا الفضائية ، ويمكن الإشارة هنا إلى المخرج العالمي ( جيمس كاميرون ) الذي شارك في تصميم مركبة الهبوط المريخية ، وهذا مؤشر أكيد على أن التخييل العلمي الروائي أو الفلمي ماعاد محض فنتازيا يوتوبية بل صار موضوعاً قابلاً للتوظيف المباشر في أغلب الأحيان .
على الرغم من الانعطافات الثورية التي جاء بها أدب الخيال العلمي المعاصر فهناك من يعتقد أن هذا الجنس الأدبي سيطوله الانحسار لواحد من سببيْن : السبب الأول هو منافسة أجناس جديدة تشبه أدب الخيال العلمي ويمكن توصيفها بأدب يوم القيامة - ذلك الأدب الذي يرسم سيناريوهات مرعبة للكيفية التي سيتلاشى بها العالم من جراء كارثة بيئية أو وباء غير مسيطر عليه ، ويعدّ هذا اللون الأدبي شكلاً من ( ديستوبيا ) معاصرة باتت تلقى هوى في نفوس الكثيرين رغم أجوائها الكئيبة المنذرة بالنهايات الحتمية . أما السبب الثاني فهو تنامي المدّ الديني والأصولية العقائدية لأسباب كثيرة بعد خفوت الحركات الحداثية وضمور الانبهار بالعلم وتطبيقاته ، وهذا هو مايؤكّده ( آرثر كلارك ) الذي يرى أن معظم الناس يقفون اليوم مشدوهين أمام نظريات علمية أشبه بالملغزات السحرية ( مثل الحوسبة الكمية ونظرية الأوتار الفائقة) تتطلّب مخيالاً رياضياتياً وإحساساً فيزيائياً لايمتلكه الكثيرون؛ لذا آثروا الارتماء في أحضان الأصوليات الدينية الباعثة على الراحة .
يختزل العالم الفيزيائي ( بريان غرين ) بطريقة رائعة الوضع الحالي وهو يكتب : إن الاكتشافات الفيزيائية المعاصرة تدفعنا إلى إعادة تصورنا اليومي للواقع بكيفية أشد إرباكاً من أكثر الروايات العلمية تخييلاً . صحيح أن رواية الخيال العلمي يمكن أن تخلق واقعاً غريباً ولكن الاكتشافات الفيزيائية الأخيرة تفوقها إبهاراً وغرابة.
يتبع
جميع التعليقات 2
فريد حسن
مقال جيد
فريد حسن
مقال جيد