شهدت الحركة الفنية العراقية، منذ الاربعينات وحتى الآن، اربعة اجيال من الممثلات.. قدمن شخصية المرأة العراقية بكل تنويعاتها وصفاتها ومستوياتها الاجتماعية والفكرية والطبقية، ورغم الكم الكبير من الاعمال الدرامية خلال تلك العقود، الا انه لم تبرز اي واحدة
حميدة العربي
شهدت الحركة الفنية العراقية، منذ الاربعينات وحتى الآن، اربعة اجيال من الممثلات.. قدمن شخصية المرأة العراقية بكل تنويعاتها وصفاتها ومستوياتها الاجتماعية والفكرية والطبقية، ورغم الكم الكبير من الاعمال الدرامية خلال تلك العقود، الا انه لم تبرز اي واحدة من الممثلات، بشخصية، نسائية، معينة تصبح مثالا لدى الجمهور او تترك اثرا عميقا بحيث يذكرها دائما، باستثناء قلة من الممثلات تميزن بادوار معينة، مثل زكية خليفة وسعدية الزيدي بأدوار المرأة الريفية، سهام السبتي بادوار المرأة الشعبية ـ البغدادية ـ شذى سالم بأدوار الفتاة الجادة، امل طه بالادوار الكوميدية والخفيفة.
في البدء كان الرجال يقومون بالادوار النسائية ثم اصبح للراقصات والمطربات حضور في تأدية بعض الادوار، حتى منتصف الخمسينات حين دخلت على الخط نساء من فئات مجتمعية مختلفة، تم دمجهن بالعملية الدرامية عن طريق التلقين والتدريب المباشر ( اثناء البروفات ) فظهر الجيل الاول، الذي ليس له علاقة بالفن او التمثيل، وانما تمت الاستعانة به لقلة العنصر النسائي وحاجة الاعمال الدرامية الى المرأة، فكان هذا سببا في منح هؤلاء الممثلات فرصا مهمة في اعمال بارزة، وليس القدرة في الاداء او المستوى الفكري والفني. وباستثناء الفنانة آزودوهي صموئيل، درست بمعهد الفنون الجميلة، والتي برزت مع عدة اسماء نسائية من هذا الجيل، ضمن قائمة الرواد، مثل زينب، ناهدة الرماح، سليمة خضير، زكية خليفة، ثم سعدية الزيدي. كان اداء هؤلاء الممثلات فطريا، تراوح بين الصائب والخائب، واكتسبت البعض منهن خبرة ومعرفة بعد تراكم التجارب الفنية.
الجيل الثاني، جيل الدارسات فنيا، حسب المدارس التقليدية ـ الكلاسيكية ـ التي تتبنى اسلوب التقمص والاندماج التام بالشخصية.. مع شيء من العفوية في الاداء. ومن ابرز ممثلات هذا الجيل، فوزية عارف، مي شوقي، سهام السبتي، غزوة الخالدي.الجيل الثالث، جيل المسرح الحديث ـ بريخت على الاغلب ـ الذي يقدم نفسه كممثل للشخصية دون ان يتقمصها، وهذا الجيل وجد الارض خصبة والطريق ممهدة، فنيا وفكريا واجتماعيا ـ في السبعينات ـ فاستفاد من البيئة والمعطيات وطور نفسه وادواته، بعمله مع اهم فناني المسرح في تلك الحقبة وتأثره بهم فنيا وفكريا، وحقق، مع ابناء جيله، انجازات فنية مهمة لولا الظروف العامة ـ للبلد ـ التي شتتت الوسط الفني وزعزعت الحركة الفنية واضعفتها. ومن اسمائه احلام عرب، اقبال محمد علي، عواطف نعيم، اثمار خضر، اقبال نعيم .. واخريات لم يحصلن على الفرص الكافية. القاسم المشترك بين الجيلين الثاني والثالث هو الاداء الاكاديمي، مع بعض الاستثناءات في كل جيل.
الجيل الرابع، الحالي، وهو جيل هجين بين الماضي والماضي القريب والحاضر، لم تتضح هويته ولم تتبلور ملامحه بعد. البعض منه يقلد الممثلات السابقات والبعض الآخر يكافح لكي يتميز ويثبت جدارته. تميزت منه آلاء حسين وآلاء نجم ولبوة صالح. اما التلفزيون فقد قدم العديد من الوجوه النسائية منذ بدايته في الخمسينات.. وحصلت بعض الممثلات على فرص جيدة متتابعة، اوصلتهن للشهرة، مع تفاوت المستويات.. والبعض سجلن حضورا اقوى على المسرح منه في الدراما التلفزيونية، مثل فوزية عارف وعواطف نعيم. ولأن اغلب الممثلات جئن من المسرح الى التلفزيون لذا ظل الاداء المسرحي طاغيا في كل الادوار التي قدمنها، والغريب ان الكل يتباهى بادائه المسرحي امام الكاميرا دون ان يتذكر، ان للكاميرا أداء وتعاملا مختلفين. وما ينقص الممثلة العراقية، بصورة عامة، هو ضعف الاحساس بمشاعر الشخصية التي تقدمها، والتعامل بسطحية وبساطة مع الادوار، فيأتي الاداء ميكانيكيا، مفتعلا وخاليا من المصداقية، احيانا.
وباستثناء الجيل الثالث، والبعض من الجيل الثاني، تستمر اغلب الممثلات بذلك الاداء المصطنع الذي يتميز بالمسكنة والتشكي في الادوار الايجابية، والتشنج والعصبية في الادوار الشريرة. والممثلات العراقيات، بصورة عامة، يمثلن شخصيات مختلفة بأداء واحد.. والمفروض شخصيات مختلفة بأداء مختلف. ومن الامور التي لم تساعد الممثلة العراقية في تطوير امكانياتها وتحسين ادواتها، ان الكتاب، عندنا، يقدمون شخصية المرأة بطريقة سطحية ويرسمونها ـ دائما ـ باتجاه واحد، اما الحزن او الجدية او المرح.. الخ وهذا لا يمنح الممثلة فرصة لاستخراج الطاقات الكامنة لديها. ونادرا ما يخلق الكاتب شخصية نسائية مركبة او معقدة، تضع الممثلة امام تحد لإمكانياتها وموهبتها، مع العلم ان هكذا شخصية تعتبر اضافة نوعية واغناء للعمل الفني. كما ان الوضع الاجتماعي والبيئة العراقية ـ الذكورية ـ لا تسمح للمرأة بالتجريب والمحاولة والمغامرة، فالممثل لا يعتمد على موهبته او دراسته فقط، في الاستعداد والتحضير للشخصيات التي يمثلها، بل ـ اضافة لذلك ـ على خزينه المعرفي والثقافي والذهني وتجاربه الشخصية على الصعيدين العام والخاص، ولو تابعنا مسيرة الممثل ـ الرجل ـ منذ مرحلة الثانوية وحتى الاحتراف، فسنجد امامه طريقا مفتوحا، مليئا بالحرية الكافية والتجارب والصداقات والمغامرات والسفر والمشاركات الاجتماعية والعلاقات العاطفية، اضافة الى الكثير من النشاطات والمهارات التي تدعم عمل الممثل مثل ركوب الخيل والدراجات والسباحة والموسيقى والرقص والاختلاط بالناس في المقاهي ونوادي السهر، وهذا كله يشكل اساسا بالغ الاهمية في تكوين شخصية الممثل واغنائها. مقابل ذلك لا تجد المرأة ـ الممثلة ـ نفس المجال والحرية ولا تتاح لها الفرصة لتجرب ما تراه مناسبا لفنها او تشارك بفعاليات، استثنائية، تدعم ثقافتها او تقيم علاقات او رحلات للاطلاع والتوسع بالمعرفة والمعلومات، ولا توضع على محك المسؤولية الا في وقت متأخر وضمن حيز العائلة، وحتى اثناء الدراسة والعمل، تظل فرصها في الحياة الاجتماعية اقل ومجالها اضيق.. فكما هو معروف في الوسط الفني، وبعد انتهاء العروض المسرحية، تعود النساء، الممثلات، الى البيوت في حين يذهب الرجال، الممثلون، الى اماكن السهر يتناقشون ويتبادلون الآراء والافكار والاقتراحات، وتتم بينهم صفقات واتفاقات ومشاريع، ويعقدون صداقات جديدة ويعززون اخرى قديمة ويحصلون على فرص فنية من خلال تلك اللقاءات، وهذا يتكرر دائما، مع العروض وبدونها. في حين لا يتوفر كل ذلك للممثلات بسبب العقلية الاجتماعية المنغلقة والعادات والتقاليد التي تقيد حركة المرأة والنظرة المتخلفة لعملها في الفن، وهكذا تميل كفة الميزان لصالح الرجل في عمق التجارب وتراكم الخبرة الحياتية وتنوع مصادر المعرفة. وحتى مقارنة بالممثلات العربيات، تحتاج الممثلة، العراقية، الى المزيد من الجهد والمثابرة والتجريب والاطلاع على التجارب العربية والعالمية في هذا المجال. وبعيدا عن التقييم الفني لمستوى هذه الممثلة او تلك من كافة الاجيال الفنية النسائية ـ التي تجاذبت شخصية المرأة ـ الا انه يحسب للفنانات العراقيات، وللممثلة بشكل خاص، وعلى مدى العقود الستة الماضية انها تحدت الظروف الاجتماعية وواجهت العقلية الذكورية وتحملت الكثير من المصاعب والمواقف، بالعمل والصبر والاصرار، وحضورها في الدراما، بأنواعها، تأكيد على تميزها ووعيها بحقوقها وبدورها كأمرأة وانسانة.