ليس من باب الكلام المجرد، قول الحكيم "ما يعبث به المجنون، يعجز مئة عاقل عن إصلاحه". لكنّ الحكمة تطرح في مثل هذه الحالة تساؤلاً مشروعاً حول مَنْ وضع أدوات العبث بيد المجنون ليُخرّب، ومن فكّ وثاقه إذا كان معروفاً أنه عابثٌ لا محالة، وأي غرضٍ أو هدفٍ مريبٍ للعابث الثاني المشتَبه بسويّته، ليتحرّر من أسباب الحرج فيجعل من المجانين أدوات لتحقيق أهدافه المريبة وأغراضه التي تنمّ عن فعلٍ مجنونٍ أشدّ خطراً على المجتمع وهو يلعب بأوراق سياسية ساقطة.
مرّت بضع سنوات والعراقي يحلم بفرصة ذهبية يستعيد فيها عافيته الوطنية، بترميم ما أصاب بنيانها من شرخٍ وتصدّعٍ نتيجة عبث مجانين الصدفة السياسية، زعران العبث الطائفي. وما أن حانت له الفرصة الذهبية التي طال انتظارها، وكلَّفته دماء غزيرة سفكتها قطعان داعش والإرهاب المنفلت الذي لا دين له ولا مذهب يردعه، حتى بات يعبث بها في الظلام مجنون فكّ أسره مجانين الفساد السلطوي، الذين يترصّدون أي سانحة لاستعادة العافية الوطنية، فيحوّلوها الى مناحةٍ وطنية، تعيدنا إلى المربع الأسود الأول، ويُكدّرون علينا فرحة استعادة الفلوجة، وحواضر أخرى أسقطتها قياداتٌ متلبّسة بفساد الحكم، لتصبح رهينة تحت سلطة داعش الإرهابية.
منذ بداية التحضيرات لتحرير الفلوجة والموصل، والأصوات ترتفع داعية لتجنيب المدينتين من احتمالات تعرّضهما إلى فتنةٍ طائفية، أغراضها ودوافعها ووسائلها لا تمت بصلة من قريبٍ أو بعيد إلى هدف استعادة اللُحمة الوطنية ورأب الصدع، لوضع البلاد من جديد على طريق المعافاة من أدران النهج الطائفي، وسياسات الإقصاء والتمييز والأحقاد والانتقام الطائفية.
وكان يُفترض أن يتنبّه رئيس مجلس الوزراء وقادة الكتل المنشغلون بزيارة محاور العمليلت القتالية ضد داعش، دون أن تكون لبعضهم خبرة في استعمال بندقية صيد الأرانب، إلى تلك النداءات والتحذيرات المخلصة مما تُبيّتُه رؤوس الفتنة المتربّصة في زوايا مظلمة، لكنها مكشوفة لأُولي الأمر والحول، وأن يقطعوا على هذه الرؤوس طريق إشعال نيران فتنة إثارة الأحقاد والضغائن والانتقام ضد ضحايا داعش.
إنَّ ما يزيد على سنتين من سلطة داعش الإرهابية على سكان عُزّل، مقصيّين عن كل ما له بالعراق، تجعل ممكناً تورط البعض من ضعيفي الإرادة المتدثّرين بخوفٍ دائمٍ من تحوّل الواحد منهم الى ذبيحة، أو إلى حطب يابس لمحارق القتلة الداعشيين بفعل شُبهة أو وشاية أو حتى الانتماء الكاذب لتنظيمهم دون قناعة أو ارتكاب جريمة. وهذه الظاهرة بحدّ ذاتها تُشكّل الفرصة الذهبية المطلوب اقتناصها لإشاعة روح التسامح والاحتضان والرعاية والعفو عند المقدرة، مادام مّنْ يشملهم ذلك كله لم تتلطّخ أياديهم بدماء مواطنيهم وأبناء مدينتهم ووطنهم. وهي ظاهرة ينبغي أن تشمل ختى عوائل الدواعش الذين لم يرتكبوا ذنباً أو إثماً مع سبق الإصرار.
إن وضع اليد على مَن ارتكب جرائم ضد الناجين من حصار الفلوجة، لا يتطلب تشكيل لجان تحقيقية، ولا يتحمل الانتظار بحجتها، لأنّ في ذلك تبديداً لفرصة سانحة لتأكيد استعدادنا لاستعادة الوحدة الوطنية التي ضيّعها حاكم أحمق ومستبدّ .
وهي فرصة للعبادي لتأكيد جدّيته في تحقيق الإصلاح والتغيير.
وهل مِن إصلاحٍ أعمق وأجدى من إصلاح النفوس وتحريرها من ربقة الأحقاد الطائفية ..؟!
إعادة الثقة إلى نفوس أهل الفلّوجة فرصة لن تُعوَّض !
[post-views]
نشر في: 8 يونيو, 2016: 06:55 م