ليس مصادفة إعتبار الفنان يان توروب ( 1858-1928) واحداً من أهم ثلاثة رسامين هولنديين مجددين ومؤثرين في الفن الحديث سواء في هولندا أو خارجها، فهو مع فنسنت فان غوخ وموندريان، شكَّلَ نقطة التحوّل في الفن الهولندي وقاده الى مسارات جديدة. فهذا الفنان العظيم والمتمكن من أدواته ظهر في فترة مهمة ومفصلية من تاريخ الرسم، هو الذي كان باحثاً عن الجديد، لا يستقر ولا يهدأ له بال وهو يبحث ويتنقل مثل نحلة بين زهور الفن وحدائقه الملونة.
أكتب الآن عن هذا الفنان الذي سحرني وأثَّر عليّ كثيراً بمناسبة أقامة معرض كبير لأعماله في متحف مدينة لاهاي، حيث جُمعت وأُستعيرت الكثير من لوحاته من متاحف عديدة ليضمها هذا المعرض المهم. ولد توروب في أندونيسيا حين كانت مستعمرة هولندية وهو يحمل دماء مختلطة أوروبية وآسيوية، وقد أنتقل وهو صبي صغير من هناك الى لاهاي، تلك المدينة التي تربى فيها وتشبع بتقاليد مدرستها الفنية المعروفة. المعرض فرصة كبيرة للأطلاع على هذه المجموعة النادرة في مكان عرض واحد ومقارنة مراحل الرسام المختلفة مع بعضها لمعرفة أنتقالاته والآفاق الجديدة التي فتحها لفنه وفن الآخرين أيضاً. كان توروب يتمتع بعلاقات واسعة خارج هولندا ويتواصل بشكل دائم مع الفنانين الذين ينتمون الى دول أوروبية آخرى. وما ميَّزه، هي نظرته الثاقبة لكل ماهو جديد، حيث كان يعتبر ملك الرسم في هولندا وسط شباب الفنانين في نهاية القرن التاسع عشر، هو الذي نظم وأقام أول معرض لفنسنت فان غوخ في هولندا بعد سنتين من وفاة فنسنت الذي لم يكن معروفاً على نطاق واسع وقتها، حدث ذلك سنة 1892 حين دافع عن جمال وقوة وأصالة أعمال فان غوخ وما تحمله من تعبير وفرادة، هو الذي يصغر فنسنت بخمس سنوات، وهكذا نظم له معرضاً مهماً في مدينة لاهاي ليطلع عليه الفنانون في هولندا، وقد سرى تأثير ذلك المعرض كالنار في الوسط الفني.
من جانب آخر يعتبر توروب أول فنان هولندي رمزي، حيث رسم مجموعة من اللوحات العظيمة التي يعتبرها النقاد أهم ما رسمه هذا الفنان على الأطلاق والتي تتباهى المتاحف التي تملكها ضمن مجاميعها الفنية مثل متحف أورسي في باريس ومتحف كرولر مولر في هولندا وغيرها. إضافة الى تلك الفرادة وذلك التجديد نرى أن توروب كان أيضا أول رسام هولندي يرسم بالطريقة التنقيطية على نهج الفنان سورا، وقد أنتج بهذه الطريقة مجموعة كبيرة من أعماله الأخاذة والقريبة من النفس، لكنه أيضاً كان مثل سورا، لا يستقر على شكل محدد ولا يبقى ثابتاً على أسلوب. وكان معاصروه يتساءلون دائماً بتعجب حول سبب أنتقاله من أساليب برع فيها وأصبح متفوقاً. وهذا يشير ببساطة الى كونه لا يريد أن يكون مثل باقي الفنانين الذين يتبنون أسلوباً في الرسم ويمضون به طوال حياتهم والى الأبد.
ضم المعرض أعمالاً من مراحل مختلفة للفنان ومنها مرحلته المهمة في تاريخ الفن، وأقصد الرمزية، حيث خطوطه التي تنساب مثل شلال فوق وجوه النساء الساهمات ، مثل لوحته الشهيرة (الرغبة والرضا) التي رسمها سنة 1893 وتظهر فيها أمرأة بعيون كبيرة وحزينة، تشبك أصابع يديها بأستسلام لتتساقط قطرات المطر على زهور الزنبق الذي يحيط بها ولم يتفتح بعد، ويظهر في مقدمة اللوحة شخصاً يبدو مقدساً وهو يمسك بزهرة بدأت بالتفتح، بينما يهتز جرس كبير في الأعلى وتنثال منه خطوطاً متوازية تنتشر على اللوحة وكأنها أنشودة حزينة مبللة بالمطر. وقد أستبدل توروب هذا العمل مع عمل لصديقه الفنان الفرنسي موريس دينيس سنة 1911 وقد أصبحت اللوحة بعد سنوات عديدة من ممتلكات أبنة الفنان دينيس قبل أن تستقر في متحف أورسي في باريس. هذا النوع من الأعمال أثَّر كثيراً على الرمزية التي ظهرت في أوروبا وكذلك أستلهمها الكثير من فناني الآرت نوفو والآرت ديكو.
يان توروب.. مجموعة عبقريات في شخص واحد
[post-views]
نشر في: 10 يونيو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...