جمال جصاني أكثر من الف عام من الانتظار، اكتسح فيها التكلس لا المفاصل وحسب بل تغلغل عميقا الى حيث تستقر هيئة الاركان في الجزء الخلفي من جمجمة سلالات بني آدم. طقوس وتعاويذ ظلت تتداولها الاجيال جيلاً بعد جيل. يرتشفون الاخبار من كل فج قريب او بعيد، بانتظار ان تزف البشرى اليهم بقرب وصول الغوث ومراكب النجاة، التي وعدتهم بها شبكة عناكب ذلك الحلم العضال.
الا ان الربع الاخير من القرن المنصرم، حمل اخباراً مغايرة وتلك الرتابة الازلية. اخباراً عن نفاد صبر سكان بلاد فارس من الانتظار، عن همة وعزم وتصميم لاتقل باًساً عن اسطورتهم المتوهجة (آرش) الذي منح قومه وطناً مترامي الاطراف...قرروا ان يجترحوا المعجزة، فهبوا هبة رجل واحد لانجاز ذلك المشروع الدائم التأجيل؛ فكانت الثورة التي عقدت تحت عباءتها صيغة زواج الجمهورية الاولى والولي الفقيه...!وبعد ان وضعوا بصمتهم المميزة كصانعي آخر ثورة كبرى في القرن العشرين، استعدوا لاستقبال ما انتظروه طويلاً من ثمرات ووعود عن بركات العدل الاجتماعي والمساواة وكرامة الانسان و....ها انا اليوم وبعد ثلاثة عقود من انتصار تلك الانتفاضة الشعبية الرائعة، اتذكر ذلك الحوار الذي دار بيني وبين رجل دين طاعن في السن (من اصدقاء والدي ويمت لنا بصلة نسب) كان ذلك في طهران عام 1982 فحوى ذلك الحديث المترع بالحكمة والمسؤولية والدراية لشيخ ظل حتى لحظاته الاخيرة ينظر الى الدين والدنيا، بعيداً عن موجات الهذيان والهلوسات الطاغية آنذاك. قال: ان لم تتوقف هذه الحرب فوراً، ستجر علينا كعراقيين وايرانيين وباقي سكان المنطقة، ما لايمكن للخيال ان يتصوره من مآس وكوارث. واذكر انه كان شديد الامتعاض من تدافع (رجال الدين) المحموم صوب مغانم السلطة ومغرياتها، وختم حديثه بمرارة قائلاً؛ ماالذي سنقوله بعد الآن للناس (كرجال دين)، وكيف سيلوذون بنا من ظلم الانظمة المستبدة، بعد ان تتحول سلطة رجال الدين الى الاكثر جبروتاً وطغياناً وانتهاكاً لحقوق (عيال الله)...؟رحل ذلك الشيخ الجليل ولم يشاهد النهاية ولا المأزق الذي وصل اليه المكتب الاستشاري لمهندسي تحرير القدس عن طريق كربلاء...!وقبل هذا كله كان المعلم القادم من مدينة (سبزوار) والذي اكمل دراسته العليا في ارقى جامعات العالم (السوربون) قد تلمس مبكراً مخالب وهراوات ذلك الخطر المتزايد لسدنة الدين الشعبوي، أو ما أطلق عليه في مؤلفاته اللاحقة بـ (التشيع الصفوي) تلك الكائنات المتنافرة وتلك الإرهاصات الاولى التي خطت ملامحها الفتية المدرسة العلوية. ومن حسن حظ الدكتور علي شريعتي (ولد عام 1934 في خراسان وتوفي عام 1977 في ظروف غامضة في لندن) ان رحل قبل ان يرى ماآلت اليه الثورة التي انتظرها طويلاً، ومن دون ان يتجرع من الكأس التي تجرعها أحد ابرز زعماء اكبر ثورة اشتراكية دشنت القرن العشرين وهو (بوخارين) عندما وجد نفسه يواجه الرصاص من بنادق الجيش الذي كان هو احد ابرز مؤسسيه (الجيش الاحمر) المناضل المفعم حماسة وحيوية الذي قال عنه لينين يوماً بأنه يعد محبوب الحزب بحق، اعدم وغير القليل من رفاقه استجابة لفرمانات مرشد الحزب الاعلى (الرفيق ستالين).رحل شريعتي والتهمت (الثورة) بعد ذلك غير القليل من رفاقه وتلامذته، بعد ان كانوا هم وبقية الفصائل الوطنية وهجها وزيتها الفعلي. تلك الانتفاضة مالبثت ان تدحرجت الى احضان اجيال جديدة من المخلوقات، كل موهبتها تكمن في شراهتها على اجترار ما تركته فضلات عربات الانظمة المستبدة تحت ذريعة الدفاع (عن الولاية والدين) وما نشاهده اليوم من فصول تراجيدية بعد ان انتصرت الصناديق لانصارها رغم انف الهيئات والمجالس الوصائية عليها. ليس غريباً ولامغايراً لتلك الدروب التي ولج اليها النظام الجديد (الجمهوري الاسلامي) المتنافرة ومبادئ الحرية وحقوق الانسان عندما اعدم (سعادتي) احد ابرز القيادات الشابة للثورة بتهمة التجسس للاتحاد السوفيتي السابق، تلك التهمة الملفقة التي تصدى لها آية الله السيد محمود الطالقاني (اول امام جمعة لمدينة طهران) والذي التحق بدوره الى قافلة ضحايا الموت الغامض...؟ولم يمر وقت طويل حتى جاء دور احد ابرز واقدم الاحزاب اليسارية الايرانية (حزب توده) الذي لم تنفعه هرولته في ازقة (خط الامام) لتنطلق ابشع عملية تصفية جسدية ومعنوية لقادته وتحت ذات التهمة؛ التجسس لصالح الاتحاد السوفيتي السابق. مشاهد وفصول كنا نشاهدها في طهران آنذاك، لتتداعى بنا الذاكرة الى ما قامت به قطعان الحرس القومي بعد 8شباط 1963 (والصدفة جعلت ذات التاريخ أي 8شباط للثورة الايرانية عام 1979) حيث التهم الملفقة والوحشية في تصفية المخالفين جسدياً ومعنوياً. وغير القليل يتذكر قول رئيس المحاكم الثورية آنذاك آية الله خلخالي جواباً على الانتقادات الشديدة الموجهة الى محاكمه واحكامها المتنافية وابسط حقوق البشر القانونية والشرعية عندما قال: (من يعدم وهو بريء سيذهب الى الجنة.....؟!).يبدو ان قدر ايران ان تقف مجدداً وبعد قرن من الزمان امام ذات التحدي الذي واجهها عام 1906 عندما احتدم الصراع بين دعاة (المشروطة) وخصومهم من انصار (المستبدة). ويبدو ان هذا الصراع قد وصل اليوم الى حافاته الحادة، بعد ان اسفر النظام عن ملامحه الفعلية وترسانة معداته الوحشية في التصدي لمطالب (عيال الله) السلمية، اذ ل
إيــران والـــولايـــة الاخيــرة للفقيــه
نشر في: 26 يناير, 2010: 06:21 م