TOP

جريدة المدى > عام > حلمُ غايةٍ ما.. السعي نحو رؤية متبصِّرة لعالمنا - القسم الأول

حلمُ غايةٍ ما.. السعي نحو رؤية متبصِّرة لعالمنا - القسم الأول

نشر في: 15 يونيو, 2016: 12:01 ص

كانت تجربتي في ترجمة كتاب ( حلمُ غايةٍ ما Dreaming To Some Purpose) - السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون تجربة فريدة إلى أبعد الحدود المتصوّرة : فقد وفّرت لي فرصة مثالية لتذوّق متعة المكابدة الجميلة في الاستغراق مع النصوص المكتوبة بنبض الحياة

كانت تجربتي في ترجمة كتاب ( حلمُ غايةٍ ما Dreaming To Some Purpose) - السيرة الذاتية للكاتب الفيلسوف كولن ويلسون تجربة فريدة إلى أبعد الحدود المتصوّرة : فقد وفّرت لي فرصة مثالية لتذوّق متعة المكابدة الجميلة في الاستغراق مع النصوص المكتوبة بنبض الحياة اليومية والمُحمّلة بحمولة فلسفية وسايكولوجية لطالما عهدناها في الأعمال المنشورة للكاتب . وأعترفُ بوضوح أن عملي في ترجمة هذا الكتاب أعاد هيكلة الكثير من المفاهيم لديّ كما شذّب البعض الآخر منها ، ولعلّ الحصيلة الأكبر التي خرجتُ منها بعد إنجاز ترجمتي للكتاب هي تأكيد قناعتي الراسخة في ضرورة أن نقرأ أعمال أي كاتب بعقلٍ منفتح ومروءة مترفّقة بعيداً عن المواضعات السائدة عنه والتي تستند في الكثير منها على خلفيات أيديولوجية أو تهميشية لاتمت إلى الفعل الإبداعي الخالص بأية صلة . ولاينبغي التصوّر أن الغربيين بمعزل عن هذا الأمر الذي يبدو في معظم جزئياته غير مقتصر على جغرافية حضارية دون غيرها لكونه أمراً يختصّ بالطبيعة التنافسية التي تَسِمُ الفعاليات الإنسانية في عالمنا الحاضر ، وربما نجد في روايات الكاتب اللورد سنو Snow وبخاصة في روايته ( الأسياد The Masters ) وسلسلة أعماله المعنونة ( غرباء وأخوة Strangers and Brothers )  أبلغ الأمثلة عن طبيعة المغالبة في بيئات نخبوية وأكاديمية قد يراها البعض قلعة مقدّسة في طبيعة العلاقات الأكاديمية المثالية السائدة فيها - مثل أروقة جامعة كامبردج العريقة - !! .
من جانب آخر فإن الموضوعة الرئيسية لسيرة ويلسون الذاتية هي "الكفاح في مقابل الوهن والخذلان والاندفاع في الحياة بعزيمة شُجاعة والحفاظ على روح النزعة  التفاؤلية المتوهجة والاستعداد الدائم للحفاظ على اتقاد تلك الشعلة المنعشة للروح برغم كل المُعيقات التي تواجهها وتدفعها للإنكفاء المُذلّ " . وأحسب أن هذا الدرس المعرفي - الحياتي - الفلسفي - السايكولوجي المركّب هو الخلاصة الرائعة لما يمكن أن نتعلمه من وراء قراءة هذه السيرة الغنية المفعمة بالألق والروح الوثّابة  .
تميل طروحات ويلسون لأن تكون مباشرة واضحة ولاتعمد إلى مقاربات التفافية على صعيد الفهم أو على صعيد اللغة ، وقد أكّد ويلسون منذ بداياته مع نشر كتاب  "اللامنتمي" عام 1956 وكذلك في سيرته الذاتية على بضعة مفاهيم أساسية يتقدّمها المفهوم التالي :  إن الروح التشاؤمية التي أشاعها الرومانتيكيون وحركتهم الطليعية منذ نشر أعمال "شيللي" المبكّرة لم تكن في حقيقتها سوى موقف كيفي اختاره الرومانتيكيون ولم يُفرَض عليهم فرضاً ، وأن النزعة التشاؤمية المقترنة بهم ليست أكثر من إدمان عقلي استمرأوا تبعاته ولم يبذلوا جهداً منظّماً وصارماً لقلب موازينه وسطوته على حياتهم . وعلى أساس هذا المفهوم يكون ويلسون قد أعاد التذكير والدعم للفكرة الأساسية في فلسفة هوسرل الظاهراتية - وأعني بها فكرة القصدية intentionality القائمة على أساس أن الفعاليات الإنسانية هي بطبيعتها مقصودة ومُوجّهة نحو غايةٍ ما ، وأن العقل البشري يكون فعالاً ويعمل بانضباط صارم ومدهش متى مارُسِمت أمامه خارطة واضحة المعالم للأهداف المتوخّاة ، أما بغير هذا فسوف تستحيل القدرة العقلية الجبارة خواءً يدفع بصاحبه إلى الضجر المستديم الممتد بلا نهاية . إن هذه الفكرة وحدها تكفي لرفع أكثر من قبّعة كتلويحة احترام يستحقها ويلسون بجدارة كاملة وبخاصة أن هذه الفكرة لم تأتِ من محض التفكّر السلبي وسط حياة الدعة والاكتفاء المادي بل جاءت بعد كفاح مرير وشاق تعلّم منها الكاتب أن تحديد غايةٍ ما للمرء في الحياة ومن ثم العمل الجاد والمنظّم من أجلها لهي الفعالية الأولى التي تستحق عبء الكفاح المشرّف من أجلها .
ربما سيكون أمراً عسيراً عليّ لو حاولت - محض محاولة حسب - رسم صورة تقريبية للسعادة العظمى التي ملأت قلبي وروحي بعد أن رأيت كتاب السيرة الذاتية هذا منجزاً ومطبوعاً في حُلّة فاتنة دأبت "دار المدى" على جعلها عنواناً لجودة الأعمال التي تصدر عنها والتي أراها جديرة بالإشادة والامتنان الكبيرين والحترام الواجب ، كما لن تفوتني الإشارة إلى التعليقات الاحتفائية  الكثيرة التي وردتني عن الكتاب سواء في الفضاء الفيسبوكي أو عبر مراسلات إلكترونية شخصية .
سأقدّم في قسميْن متتالييْن ترجمة للمراجعة الممتازة لكتاب السيرة الذاتية للكاتب - الفيلسوف كولن ويلسون والمنشورة عام 2005 في حقل مراجعات الكتب  في موقع nthposition الإلكتروني للكاتب تود سويفت Todd Swift : الكندي الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية من جامعة إيست أنغليا البريطانية ، ويعمل أستاذاً جامعياً وناقداً ومحرّراً بالإضافة لكونه شاعراً نشر العديد من المجموعات الشعرية إلى جانب تحريره ( أو المساهمة في تحرير ) العديد من الأنثولوجيات الشعرية واشترك في إعداد كتاب كامبردج المساعد في الشعر الحديث الذي نُشِر عام 2013 . حصل على الجنسية الإنكليزية عام 2013 وهو يقيم في لندن منذ ذلك الحين .
المترجمة

لو تسنّى لهذه المراجعة أن تُكتَبَ من قبل كولن ويلسون ذاته فربّما كان الأفضل عنونتها بالعنوان التالي ( كولن ويلسون : إعادة تقييم ). وبعيداً عن النبرة المدهشة التي يحملها العنوان المقترح فإن هذه المراجعة للسيرة الذاتية لكولن ويلسون هي في حقيقتها نوع من دفاع مشوب بعاطفة انفعالية وأراه واجباً تجاه هذا الكاتب . ثمة الكثير ممّا يمكن قوله بشأن هذه السيرة الذاتية المفرطة في براعتها أحياناً والموغلة في علوّ اشتغالاتها الفكرية الصارمة أحياناً أخرى - هذه السيرة الذاتية التي اختارت صحيفة الأوبزرفر نسختها ذات الغلاف الورقي لتكون كتاب الأسبوع ( وهو أمر يدعو للسخرية إذا ماعلمنا أن الصحيفة ذاتها هاجمت الكتاب في بعض مراجعاتها عنه عقب بضعة شهور من نشره في غلافه الصلب ) ، ولكن دعونا نؤشر بدايةً الحقيقة التالية : لو كان كولن ويلسون مواطناً أمريكياً أو فرنسياً لعُدّ أيقونة راسخة في الثقافة الشعبية وكنزاً وطنياً ينبغي الاحتفاء به ، وفي أقل التقديرات وأكثرها تواضعاً فإن كولن ويلسون مثقّف من طراز القامة الثقافية التي مثّلها ( راي برادبوري ) أو ( ألبير كامو ). ولكن لسوء حظ الرجل فقد عاش في عصر وبلد لايحتفيان سوى بالنجوم الخُلّب العابرين وعلى نحوٍ بات تقليداً ثقافياً أصاب الجميع كما الهوس الذي يصيب الذهانيين بحيث لم يعُد في جعبة الأوساط الثقافية من حيّز أو إمكانية لإطراء الأعمال الحقيقية وتقديرها التقدير الذي تستحقه . وأقول بهذا الصدد أنّ من الأمور المحيّرة لي هو عدم إنجاز أي فلم سينمائي حتى اليوم يحتفي بسيرة ويلسون ومنجزه الثقافي المميّز وشخصيته الإشكالية الفريدة . ومن جانبي أرى أن ذلك الفلم سيكون جذاباً ومنافساً للغاية وأنا على أتمّ الاستعداد للبدء بكتابة السيناريو الخاص به منذ الغد فيما لو طُلِب مني ذلك !! .
ربما سيهزّ بعض قرّاء المقطع السابق رؤوسهم غير عابئين ومتسائلين في الوقت ذاته : من يكون ويلسون هذا ؟ لن أعلّق على موضوعة التجاهل هذه ؛ إذ نحن نعيش في عصر بات من الحكمة فيه أن نصف معرفة الناس بالكاتب من خلال العملة الرائجة هذه الأيام : الشهرة ، ولكن حتى بمقياس الشهرة كان ويلسون كاتباً ذائع الشهرة وعلى النحو الذي يمكن أن يبلغه أي كاتب طبقت شهرته الآفاق في أيامنا هذه ( مثل سلمان رشدي ) ، وقد حصل وذاعت شهرته في الخمسينات من القرن الماضي عندما كان في بواكير العقد الثالث من عمره ؛ حيث لطالما بدا شاباً وسيماً يرتدي بلوزة تغطي الرقبة ، وعظام وجنتيه الناتئين لاتفتأ تذكّرُنا بالممثل العالمي ( جوني ديب ) ، ولكم أن تطّلعوا على صوره الفوتوغرافية في تلك الحقبة إن كنتم لاتصدّقون ما أقول أو وجدتم مبالغة غير معقولة في كلامي هذا .
لأجل أن أدعم ادعائي أعلاه بكون كولن ويلسون قد مثّل دوماً أهمية عظمى في الثقافة الشعبية . دعوني أقدّم بعضاّ من الأمثلة التي توفّر أسانيد لادعائي هذا : ترى من ذا الذي يمكن أن ينتهي به مطافه الثقافي ليكون ضيفاً في حفلتين مسائيتين في لندن وفي الليلة ذاتها - واحدة مع تي. إس. إليوت والثانية مع مارلين مونرو ؟ إذا وضعنا آرثر ميلر جانباً فإن الجواب سيكون كولن ويلسون بالطبع . كانت مجلة ( تايم ) الأمريكية قد أرسلت صحفيين بقصد مطاردة ويلسون في إيرلندا عندما راح يتخفى على نحو فضائحي مع حبيبته ، وظهر العديد من المقالات في كبريات الصحف العالمية بشأن المسار الذي اتبعه في رحلة انزوائه عن الأنظار ( وهي رحلة ابتعاده عن أضواء الشهرة في الوقت ذاته ) . عقد ويلسون صداقات حميمة مع الكثيرين وتناول الطعام معهم وشاركهم النبيذ الفاخر واحتدمت نقاشاته العميقة معهم ، ومن هؤلاء ( أذكرهم من غير ترتيب مقصود ) :  غراهام غرين ، جون برين ، آلدوس هكسلي ، هنري ميلر ، أبراهام ماسلو ، ألبير كامو . ومن جانبه كان ويلسون يرى في غراهام غرين منحرفاً جنسياً يتشهّى الفتيات الصغيرات . يحكي ويلسون في سيرته الذاتية أن الكاتب الأمريكي ( جاك كيرواك ) حضر لسماع إحدى محاضراته عندما سافر إلى الربوع الأمريكية لكنه كان ثملاً للغاية ولم يتسنّ له حضور القاعة التي شهدت إلقاء محاضرة ويلسون . كما يذكر ويلسون أيضاّ أن الكاتب غروتشو ماركس طلب من وكيله الأدبي عقب نشر سيرته الذاتية ترشيح أسماء الكتّاب الذين ينبغي إرسال نسخ موقّعة من سيرته الذاتية إليهم داخل بريطانيا فكان جواب الوكيل الأدبي على الفور : تشرشل ، تشابلن ، ويلسون .
كلّ هذا - وأكثر منه بكثير - نقرأه مفصّلاً  في سيرة ويلسون الذاتية ، ومن المؤكد أن السبب وراء شهرة ويلسون تلك هي نشره للكتاب الذي بات الإنجيل الأعظم للوجودية : اللامنتمي ، الذي ينبغي وضعه في المرتبة ذاتها التي حازها كتاب سالنغر الفائق الشهرة ( الحارس في حقل الشوفان ) واعتباره واحداً من أكثر الكتب تأثيراً في عقول المراهقين ، ولا أقول هذا بقصد أن يُفهَمَ كتاب ويلسون على أنه دغدغة لمشاعر المراهقين بل لأنه ألهم نوعاً من الاندهاش الذي يتناغم بأفضل حال مع الشبيبة الحائزة على العقول المتفتّحة ، وقد رُفِعَت القبّعة لكتاب اللامنتمي باعتباره عملاً لكاتب عبقري وتمّ إطراؤه من قبل أعاظم النقّاد في وقت نشره وبخاصة من قبل ( سيريل كونوللي ) و ( فيليب توينبي ) ، وكان ويلسون حينها في الرابعة والعشرين من عمره وجرى توصيفه على أنه واحد من جماعة الشباب الغاضب - التوصيف الذي لطالما امتعض منه ويلسون دوماً - ثم  سرعان مابدأت ردّة الفعل العكسية تجاه ويلسون وكتاباته .
حلمُ غايةٍ ما كتاب كتبه رجلٌ يكبر خمسين عاماً عن ذلك الشاب الذي صار محطّ إطراء عالميّ في يومٍ ما ، ومن المؤكد أن قلّة قليلة من الأفراد تذوّقوا ذلك الطعم من الشهرة التي حازها ويلسون ، وأقلّ من تلك القلّة هم الأفراد الذين رأوا مكانتهم التي وصِفت بالعبقرية يوماً ما يُطاح بها خلال حيواتهم كما شهدوا أعمالهم وهي تُهمّشُ أكثر فأكثر وتلقى النكران والافتئات . إن هذا الخسوف النقدي شبه المطلق الذي عاناه ويلسون في حياته أراه - بحسب ما أعتقد - إشارة واضحة على القيمة الحقيقية لمساهمات ويلسون الفعلية في ثقافة القرن العشرين ؛ إذ في خاتمة المطاف وسط عالمٍ شهدنا فيه بأم أعيننا مؤلف ( غاتسبي العظيم ) وهو يعجز عن بيع قصصه القصيرة ومخطوطات أعماله وهو في متوسّط عمره بعدُ ، هل نتوقّع علامة للموهبة الحقيقة العظيمة سوى أن تُقابل بالنكران والإجحاف؟
 يتبع

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram