1-3
ورشة عمل لكتابة النثر؟ ورشة عمل لتعلم السرد؟ وللنساء في البصرة؟ هذا ما تساءلت به، عندما اتصلت بي السيدة برجيت لاوباخ من منظمة البرلمان الألمانية، لتطلب مني إدارة هذه الورشة. كان قد مرّ عامان على زيارتي الأخيرة للمدينة التي كانت ذات يوم ثغر العراق الباسم، لا أظن أن المدينة تغيرت خلال العامين الأخيرين، على العكس، الأخبار القادمة منها لا تبشر بخير، سواء فيما يتعلق بالخراب الذي تعرضت له في بناها التحتية في السنوات الأخيرة والذي هو في تزايد تام، أو فيما يتعلق بسوء الإدارة والفساد. في مثل تلك الأجواء، قلت لنفسي، ترغب نساء المانيات بطِرات بتنظيم ورشة للكتابة النثرية للنساء في البصرة؟ رغم ذلك وافقت، ربما هو الشعور بالمسؤولية، ربما هو ما يشبه إرجاع لدين قديم، أو ربما هو نوع من مسّ جنون أو حب للمغامرة له علاقة بتقاليد أدبية لم يشأ أحد تذكرها اليوم، كم عدد الكتّاب الذين ذهبوا للقتال في اسبانيا إلى جانب قوات الجمهورية الشرعية الأسبانية 1936-1939؟ ربما أحد تلك الأسباب أو ربما كلها، أو ربما غيرها، ظني مثلاً، بأن السرد أو الروي هو المكان الأمثل للسلام، هي التي جعلتني أوافق بالذهاب إلى البصرة للكفاح إلى جانب أولئك النساء اللواتي إذا استخدمنا لغة الشعر، يقاتلن الصخر بجسد من زجاج، ويغامرن بحياتهن كل يوم؟
طبعاً لم تفعل الزيارة غير التأكيد على صورة الخراب الذي طال المدينة في مختلف مرافقها، الحديث عنه يمكن أن يملأ الصفحات، لا تزال البنى التحتية مدمرة، شوارع محفورة، أكوام قمامة في كل مكان، لم ينج منها حتى نهر العشار، حطام سفن قديمة كثيرة في شط العرب، أزقة وشارع مغبرة، خاصة في المدينة القديمة التي تعاني أكثر من غيرها، فما يجري هنا، هو تدمير لتراث قديم جميل عمره قروناً طويلة : البيوت المميزة للبصرة القديمة بمقدماتها الخشبية التي كانت تحمي من الحر والضوء الساطع وأعين المتطفلين، مقدمة الواجهات، خشبها منخور وزجاجها مهشم، سقوفها مثقوبة وأبوابها مائلة، أما الأنهر الصغيرة والقنوات التي اشتهرت بها البصرة لعهود طويلة وأزمان، فهي تبدو اليوم بمثابة مجارٍ للصرف الصحي أكثر من كونها قنوات. حتى نهاية السبعينات، وقبل أن تصبح البصرة ساحة للحرب والقصف خلال حرب العراق وايران (22 سبتمبر/أيلول 1980 إلى 16 آب/أغسطس 1988) وبعدها خلال حرب الكويت (16 يناير/كانون الأول إلى نهاية مارس/آذار 1991) كانت البصرة مدينة حديثة. ليس لأنني أعرف المدينة جيداً منذ طفولتي التي قضيتها هناك، ومصاحبتي لجدي فرج يوسف المفتش في شركة التمور العراقية وهو يحصي صفائح التمر المُصّدر، المحشي باللوز والجوز في فاركونات القطارات في المعقل، ليس لأنني اعتدت على قضاء العطلة الصيفية عند بيت أجدادي في البصرة في العشار، أو في بيت خالتي في الزبير وتحت أفياء شجيرات مقبرة الحسن البصري، وليس لأنها بمثابة المدينة مسقط الرأس حيث ولدتني أمي، كما درست في الخامس الثانوي في ثانوية الجاحظ في البصرة القديمة، ليس لأنني لعبت طفلاً في أزقتها ودرابينها، في محلة حي السِيف ومحلة الباشا ونظران والداكير والتميمية والجنينة والويمبي والمعقل والبلوش، حيثما تنقل أجدادي بسكناهم، ليس لأنني تنزهت فيها وأنا شاب، في جزيرة السندباد، شارع الوطني، الكورنيش، حي الجزائر ومنطقة الخورة، ليس لأنني عرفت فيها حبي الأول، الذي جعل جدي فرج يقرر السفر من البصرة إلى العمارة، لكي ينذر أبي بما حصل، نعم ليس لأنني أعرف هذه المدينة مثلما أعرف أن ليدي أصابع عشرة، بل لأن كل الصور القديمة للمدينة هي شاهدة على ذلك: البيوت القديمة التي تُذكرنا بأسلوب "الباوهاوس"، سيارات حديثة تجوب شوارع مبلطة ومارة يسيرون على أرصفة نظيفة، أما الماء فيجري في القنوات والأنهر الصغيرة، في هذه المدينة التي كانت تُدعى ذات يوم "فينيسيا الشرق"، في ذلك الزمن الذي كان المرء يحار باللقب الذي يمنحها إليه، وهي المدينة الجديرة بكل الألقاب.
يتبع
يُنشر المقال بالتزامن مع نشره في صحيفة فرانكفورتير الغماينة الالمانية
ورشة لكتابة النثر.. ورشة للسلام
[post-views]
نشر في: 14 يونيو, 2016: 09:01 م