TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > أُقاتلُ الغربةَ وحشاً عنك

أُقاتلُ الغربةَ وحشاً عنك

نشر في: 14 يونيو, 2016: 09:01 م

من حاشية اللحاف، وقد أنهكتك الحُمّى، في الليلة الشتائية تلك، أخرجت ثلاثة من أصابعك لي، معهم الابهام،  لتقول :لو قليلاً، قليلاً منه، وانت تلقّم كفك، لتجعلها أصغر مما يجب، قلت لك: ماذا تريد، وما هو هذا القليل الذي أنت سائلني عنه؟ لكنني، ومثل مَن غابت عنه فطنتُه ومعرفتُه، قلت لك: أتريد تمراً؟ فاومتَ لي أنْ نعمْ. من لحظتها أسرعتُ للبيت، وأتيتك بفندوس كبير، قفةٍ من تمر حلاويٍّ، لم يدر الحولُ بعدُ عليه ، ومن دكّان قرب حنفية السبيل، أتيتك بطاسة الرهش، ورحتُ أغمسُ الفردة بالطاسة والقمك الفردة والفردتين والثلاث، ما كنت أظن بانَّ تمركم نفــد، وما حسبت أنَّ نصيفيتكم صارت خوصاً لا غير، والله لو كنت أعلم، ما تركتك تجوع وتمرض وتحتمي بلحافك القطن الثخين هذا.
 ومثل باقة فجل منسية في السواقي النائية، مثل نبة لوبياء تركها صاحبها فصوّحتها الشمس طويلاً، كان وجهك يذبل بين يدي، خشيت أن تتغلب الحمّى عليك فتموت، لم يكن التمر بالرهش كافياً لتستعيد به عافيتك، فأتيتك بصينية اللبن والزبدة والأرغفة الحارة، قلت لك: هيّا، لنأكل سوية، سآكل معك، وضعت يدي خلف ظهرك وأجلستك، ولكي تبدو أكثر استقامة حسّنتُ من وضع يشماغك الأحمر على جبهتك، ومن إبريق في الروشنة، بغرفتك الطين، غسلت وجهك، ومثل من يطعم بلبلاً صغيراً، كنت ألحفُ عليك باللقمة واللقمتين، أدسهما في فمك، وفي غفلة منك، كنت أخصُّ نفسي بواحدة. كان اللبنُ مخيضَ المساء، وكانت الأرغفة ساخنة، كنتَ جائعاً، معلولاً، وكنتُ موجوع القلب، خائفاً عليك. من لي في الوسيعة هذه سواك، لا يؤنسني نخل من دونك والله، ولا يطيب لي عطر من دون قارورة صبرك ووفائك ومروءتك، كل الظلال خالية، مُحرقةٌ من دونك. أنت شقيقي في غابة النخل التي تتسع  حولي ساعة إثر ساعة.
 أمس، حين رضيتُ بك صهراً أكبرتَ بي الرجولة والخصيبية الحق، قلت عني ما لم يقله أخٌ فلاحٌ لفلاح، وكأنني بلا دين وطائفة ونسب، رحت تحدثهم عن الأيام التي قضيناها معاً، مسحاة لصق مسحاة، منجلاً مع منجل، فروونداً لآخر ..ورحت تعدد ما اشتركنا في حراثته وغرسه وسقيه وجنيه، حتى أعيتك قافلة أسماء الأنهار والزوراق والشباك. هل وصفت لهم أشكال الاقمار والشموس التي رافقتنا، أيما والله، هل تركت لهم شجرة، نخلة، برعماً لم تصحبني إليه معك، لا والله .. كانوا يظنونك شقيقي، ابنَ عمّي، وهل كنا غير ذلك يوماً ؟
من مبعدة في منفاك، الذي لم تختره، من الكويت اليوم، ومن دمشق وعمّان وأربيل، وقبل ذلك من الموصل.. ما زلتُ أبحث في صفحات التواصل عنك، وقد أضعت أرقام هواتفك التي راحت تتغير يوما إثر آخر، بحسب البلاد التي أنت فيها، هاربا، مطروداً.. وعبر الواتس آب أرسلت، أمس، صورة شجرة البمبر التي كانت مظلتنا، شمسيتنا من الهاجرة، وقد هدنا تعب وجمعتنا صلاة، البمبرة التي على النهر، خلف بيت الأبقار، أتذكرها !! قلت لك: لقد اصفرَّ البمبر، وعمّا قريب سيطيح الهنّبوش (البِشير) أردتُ أن أذكّرك بانَّ اصفرار حبّات البمبر دالةٌ على أنَّ صفرة الخلال لم تعد بعيدة. وهكذا، كل يوم أرسل لك صورة، علك تجد السبيل الي، علني أجد السبيل اليك. أنت في عامك التاسع من النأي والبعد، وأنا تحت ظلال الوحدة والعمى، أُقاتل الغربة وحشاً عنك وتقاتل الغربة جوعاً وعطشاً الي. ما أبعدني عنك، ما أقربني من رائحة وفائك التي لا تُغيب.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق منارات

الأكثر قراءة

هل ستعيد التشكيلة الوزارية الجديدة بناء التعليم العالي في العراق؟

العمود الثامن: ماذا يريدون؟

العمود الثامن: من كاكا عصمت إلى كاكا برهم

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

العمود الثامن: عبد الوهاب الساعدي.. حكاية عراقية

العمود الثامن: معركة كرسي رئيس الوزراء!!

 علي حسين عزيزي القارئ.. هل تعرف الفرق بين المصيبة والكارثة؟، المصيبة يمكن أن تجدها في تصريح السياسيين العراقيين وجميعهم يتحدثون عن دولة المؤسسات، وفي الوقت نفسه يسعون إلى تقاسم المؤسسات فيما بينهم تحت...
علي حسين

أزمة المياه في العراق وإيران: تحديات جديدة للاستقرار الإقليمي

د. فالح الحمــراني حذرت دراسة أعدها معهد الشرق الأوسط في موسكو من ان أزمة المياه بإيران والعراق المتوقعة في نهاية هذا العام قد تفضي الى عواقب بعيدة المدى، تؤثر على الاستقرار الاجتماعي في المنطقة،...
د. فالح الحمراني

العراق.. السلطة تنهب الطقس والذاكرة

أحمد حسن على مدار عشرين عاما، تحولت الثقافة في العراق إلى واجهة شكلية تتحكم بها مجموعات سياسية تدير المجال العام كما تدير المغانم. وفي ظل هذه الوضعية لم تعد الثقافة فضاء لإنتاج الوعي أو...
أحمد حسن

لماذا تهاجم الولايات المتحدة أوروبا بسبب حرية التعبير؟

فابيان جانيك شيربونيل * ترجمة : عدوية الهلالي «أعتقد أنهم ضعفاء. الأوروبيون يريدون أن يكونوا ملتزمين بالصواب السياسي لدرجة أنهم لا يعرفون ماذا يفعلون." لفهم الموقف الأمريكي تجاه القارة العجوز، يصعب إيجاد تفسير أوضح...
فابيان جانيك شيربونيل
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram