2-2
تلعب العوامل النفسية دوراً هاماً في جذب القرّاء لمثل هذا النوع من القصص ، واكثر ميكانزم نفسي يشدّنا للمتابعة هو الرغبة في التماهي او القدرة على التعاطف مع ابطال القصة . وان نتعاطف مع شخص ما يعني اننا اصبحنا نشاركه همومه وأحلامه وأهدافه ومخاوفه ونقاط قوته وضعفه ، اي بمعنى آخر صرنا نقوم مقامه . يظهر هذا التاثير من خلال الفيلم الذي يؤرخ لحياة هتلر " صعود الشر the rise of evil " ، فبالرغم من ان البطل هو نفسه في الجزءين الا ان اغلب من شاهدوا الفلم أجمعوا على أنهم أحبوا الجزء الاول اكثر من الجزء الثاني للفيلم ، وهو في اعتقادي بسبب ان الجزء الاول يصور حياة الكفاح والبؤس والإيمان الحقيقي لهتلر بقضيته وتفانيه في سبيل مبادئ الحزب وهو ما يثير في داخلنا مشاعر الحماسة والصدق وذكريات المعاناة التي عشناها سعيا وراء أحلامنا الضائعة والقادمة ، الامر الذي يجعلنا نتمناها بسهولة مع هتلر . اما الجزء الثاني فيصور الوجه الآخر لهذه الشخصية المركّبة بما تصوره من بشاعة انحرافاته وقسوته وميله للشك والخديعة والغدر في سبيل أوهامه العنصرية ، ما يجعل التماهي معه صعباً.
قصة اخرى تسلط الضوء على قضيتنا هي " حياة باي the life of pi " ، وهي تصور قصة حياة "باي" الهندي الاصل الذي يروي قصته بنفسه وكيف ان الظروف ادت به الى ان يكون وحيدا في البحر مع نمر مفترس ، وهنا يعطينا باي بطريقة سرده احتمال نسختين من القصة ذاتها لكيفية نجاته من الموت . الا ان احدى النسختين تمثل بشاعة الجنس البشري بينما الاخرى تروي كيف ان الأمل والإيمان ينجيانه في النهاية . والبديع في القصة ان طريقة السرد لا تترك مجالا للشك في أيهما ممكن ان تكون القصة الحقيقية ، فكلاهما وراد الحدوث وممكن وعلى القارئ ان يختار ايهما حصل بالفعل .
وعلى ما يبدو فإن ما يشدّنا هي قصة الصراع الداخلي فكلتاهما تمثل قصة حياة ممكنة ، إلا أن إحداهما تصور حياة عبثيّة بلا معنى بينما الاخرى مبهجة ورائعه ، فلمَ يختار الانسان ان يعاني اذا كان بإمكانه ان يعيش آمناً وراضياً عن نفسه حتى عندما لا يملك الدليل على صحة او بطلان ما يعيشه . وهذا بالضبط ما يشدنا الى باي فهو مثله مثل اي شخص عادي يختار ان يعيش بأمل على ان يكون ضائعاً وبلا مصير.
وعلى ما يبدو فإن الإشارات اللاواعية التي تمنحها قصص السير الذاتية هي اكثر ما يجذب القراء بما تمنحه لهم من احاسيس تثيرها في داخلهم قوة الكلمات والاحداث المحفورة في ادمغتهم مسبقا منذ ان كانوا صغارا . من هنا كانت التناقضات مصدر اهتمام واثارة ، فالشيء الذي يبدو في ظاهره مرعباً يكون هو نفسه السبب وراء استمرار حياة شخص، وهذا ما نشهده في قصة باي الذي يقذفه القدر في قارب نجاة وحيداً مع نمر مفترس . وبالرغم من بشاعة الموقف إلا أن نجاح باي في ترويضه يمنحه الثقة في مواجهة خطر الموت من الجوع والعطش وحيدا في البحر، فما دام قادرا على ترويض نمر فهو قادر على مغالبة الموت .