استمعت إلى عمل جورج فريدريك هندل (1685 – 1759) كونشرتو غروسّو مجموعة 3 رقم 5 للمرة الاولى في السبعينات، في بغداد، عند صديق عزيز كان يمتلك مكتبة موسيقية كبيرة ومتنوعة. حركتها السريعة الأخيرة (الخامسة) هي التي شدتني وقتها، وأثارت اعجابي لما لمست
استمعت إلى عمل جورج فريدريك هندل (1685 – 1759) كونشرتو غروسّو مجموعة 3 رقم 5 للمرة الاولى في السبعينات، في بغداد، عند صديق عزيز كان يمتلك مكتبة موسيقية كبيرة ومتنوعة. حركتها السريعة الأخيرة (الخامسة) هي التي شدتني وقتها، وأثارت اعجابي لما لمست فيها من تقارب مع الموسيقى الشرقية في بناء السلالم. منذ ذلك الوقت اعتدت القول أن بناء الموسيقى الأوروبية عمودي بسبب التألف الصوتي (الهارموني، أي تآلف الأصوات الموسيقية المتزامنة)، وبناء الموسيقى الشرقية افقي بسبب النظام المقامي الذي يفرض ترتيباً نغمياً صارماً لتسلسل القطع الموسيقية وأجزاء المقام. أقصد بذلك أن ما نراه في المقام هو هارموني افقي، بسبب بناء القطع الموسيقية التي تنتقل بين النغمة الأساسية (بيت المقام) إلى النغمة المسيطرة (الخامسة) مثلاً، أو الثالثة (تحت المسيطرة)، وكذلك الجواب (الاوكتاف أو الثامنة التالية للأساس) أو القرار (الثامنة السابقة للأساس)، أو غيرها من مفردات البناء الهارموني الذي طوره الأوروبيون بمساعدة القوانين الفيزياوية من المادة الموسيقية التي يمكن العثور عليها في كل أنواع الموسيقى. ويذكر أن الموسيقى العربية توصلت إلى استعمال أشكال بسيطة من التآلف الصوتي الهارموني في فترة متأخرة، لكن هذا الأمر لم يتطور إلى أبعد من هذه المحاولات بسبب انهيار الحضارة العربية – الاسلامية فقد خبا بريقها بعد سقوط بغداد بفترة.
نعود إلى هندل وعمله الذي ألفه في شبابه بين سنوات 1712-1724، ونشر دون علمه أو موافقته سنة 1734 بعدما غدا أشهر الموسيقيين الانكليز. استعمل المؤلف فرقة وتريات مع أداتي اوبو وأداة باسون مع أدوات المرافقة (التشمبالو والكونترباص). يكثر هندل من استعمال أداة الاوبو لجمال صوتها وطعمه الخاص، ويوظفها في أعماله الدرامية خير توظيف.
شكل كونشرتو غروسو هو من ابتكار وتطوير الايطالي اركانجلو كوريلي (تحدثت عن ذلك قبل بضعة أشهر)، لكن هندل ابتعد قليلاً في هذا العمل عن النموذج الإيطالي في العلاقة بين مجموعتي الأدوات. اقتبس الحركتين الثانية والرابعة من أناشيد مديح ألفها لراعيه دوق شاندوس، أما الحركة الخامسة موضع اعجابي فكانت جديدة. وقد اعتاد هندل تكرار استعمال الألحان الناجحة التي يبتكرها في عدة أعمال وهو ما يطلق عليه الباحثون تعبير "إعادة تدوير" (Recycling) تماما مثل إعادة استعمال وتصنيع المواد في الاقتصاد.