ثمة فرق كبير بين فنان مبدع، وآخر مبدع ومؤسس لاتجاه جديد في الفن، فهذا الأخير سينتمي بالتأكيد لنوع العباقرة الملهمين الذين يفتحون الطريق أمام أجيال كثيرة لاحقة. واذا نظرنا الى أعمال ومسيرة العبقري أرنست لودفيغ كيرخنر، فسنراه ينتمي بدون أي تردد الى النوع الثاني من الفنانين، حيث أضاف وأسَّسَ وبَسَطَ تأثيره واضحاً في عالم الرسم. فهذا الفنان الذي يقام له معرض مهم الآن في متحف سنغر بمدينة لارن الهولندية، يعتبر واحداً من أهم فناني عصره من حيث التجديد، ويضعه مؤرخو الفن بمكانة براك وماتيس من حيث نوعية ونسبة تأثيره. المعرض كبير وشمل الفترتين المهمتين من حياته، وهي المرحلة الألمانية والأخرى السويسرية. إضافة الى مجموعة كبيرة من الصور الفوتغرافية التي تصور موديلاته وبعض جوانب حياته المثيرة.
أتجول في المعرض وأرى التعبيرية بأجمل واقوى صورها على الاطلاق، وهنا أقف أمام لوحة "الراقصتان" فأشم عطر الماضي وينقلني العمل الى أجواء مدينة درسدن بداية القرن العشرين حيث تظهر نينا الراقصة الشابة مع صديقة أخرى لها عاريتين تستلقيان على أريكة مزخرفة مع خلفية خضراء تبدو وكأنها جانب من الأتيليه. وقد عرضت أيضاً مجموعة من اللوحات التي عكست الحياة اليومية في برلين حيث الشوارع المليئة بالمارة وهم يتخاطفون هنا وهناك، رسمهم بألوان كانت جديدة للعين وغريبة على البصر، ألوان صريحة وصارخة وخشنة. كذلك نرى فوق سطوح لوحاته انعكاسا لأزمات تلك السنوات البعيدة وأجوائها المضطربة، والتي كان يحاول أن يخفف من حدتها بدعوته لراقصات الليل اللواتي يمتلئ بهن مرسمه كالعادة، ليرسمهن عاريات بعد سهرات صاخبة.
هذا أول معرض يقام له في هولندا وبهذا الحجم، يصاحبه احتفاء كبير مع طباعة كتاب جديد يسلط الضوء عليه باعتباره أحد عمالقة الرسم في القرن العشرين. درس كيرخنر في بداية شبابه العمارة في درسدن، ثم درس الرسم في ميونخ ليعود سنة 1905 الى درسدن ويؤسس جماعة الجسر بصحبة الرسامين كارل شميدت وأريك هيكل، وقد كان أول اجتماع لهم في مرسم كيرخنر( الذي كان محل جزارة في السابق) وهذه الجماعة جاءت من أجل ايجاد صيغة مختلفة وشكل جديد للفن، يتناسب مع الحركات الطليعية التي ظهرت في العالم، وقد حاربهم النازيون واعتبروا أعمالهم منحطة ولهذا منعوا عروضهم فيما بعد. وجماعة الجسر كانت هي أساس المدرسة التعبيرية في الرسم، والتي انتقلت من ألمانيا لتشمل بلدانا عديدة من العالم. وهي المدرسة التي توازيها في نفس الوقت بالضبط، المدرسة الوحشية في الرسم والتي أسسها وقادها هنري ماتيس في مدينة باريس. تأثر كيرخنر كثيراً بالفن البدائي الذي اطلع عليه في متحف الأعراق البشرية، ووظف ذلك في بناء أشكاله واستعمال فرشاته بحرية.
ظهرت على كيرخنر بوادر الانهيار العقلي بسبب ذهابة الى الحرب سنة 1914 فنزل في مصحة قبل أن يعود الى برلين ويواصل عمله كرسام. لكن حالته ساءت كثيراً فقرر أن يذهب الى مدينة دافوس في سويسرا حيث جبال الألب لتكون جنته التي ربما سستنقذه من الضغوطات التي يشعر بها (كما ذهب غوغان الى جنته في تاهيتي). وقد تفرغ هناك لرسم الجبال والطبيعة بألوان تعبيرة حادة وصريحة ومن ضمن أعماله لهذه الفترة عمله الكبير والمهم (القرية في الخريف). وقد قضى كيرخنر أكثر من 20 سنة هناك بين الطبيعة والجبال والعزلة، خائفاً من ظلال النازية التي تلاحق خياله باستمرار، وقد تفاقمت حالته النفسية بعد أن احتلت ألمانيا النمسا وقد أصابه الذعر من أن يحتل النازيون سويسرا أيضاً، فأطلق النار على نفسه أمام منزله، ليرقد بعدها بثلاثة أيام والى الأبد في المقبرة المجاورة، تاركاً أعمالاً عبقرية تتسابق المتاحف للحصول عليها واقتنائها.