عندما يسير أحد رجال الشرطة ووجهه متجهم ، يتكون لدي نفس الاحساس ..وكأن هذا الشرطي يقصدني ولايقصد احدا غيري ! اما اذا سارت مجموعة من المدرعات العسكرية على احد الجسور وكنت جالسا على ضفة النهر ، فالإحساس بالخوف يتجذر ..فما الذي اوصلني الى هذه الحالة من ا
عندما يسير أحد رجال الشرطة ووجهه متجهم ، يتكون لدي نفس الاحساس ..وكأن هذا الشرطي يقصدني ولايقصد احدا غيري ! اما اذا سارت مجموعة من المدرعات العسكرية على احد الجسور وكنت جالسا على ضفة النهر ، فالإحساس بالخوف يتجذر ..
فما الذي اوصلني الى هذه الحالة من الاحساس بالرعب ..اتذكر انني كنت اقرأ في مراهقتي روايات لكاتب جيكي من اصل يهودي هو ( فرانس كافكا) ..اتذكر دائما كيف تحول (انسان مثقف وحساس الى مسخ في رواية المسخ) وكيف اصبح المواطن (جوزيف كاف ) مطاردا من قبل القضاء والشرطة والجيش والمنظمات السرية في رواية ( المحكمة ) او ( القضية ) على ذنب لم يقترفه ..
ماتوصلت اليه ان شخصيات الكاتب (كافكا ) مطاردة بتهمة لاتعرف تفاصيلها ..وان الحكم بالإعدام هو مصيرها والذي سيجري تنفيذه دون تأجيل ...وتجذر هذا الخوف عندما عرض فلم ( المحاكمة ) الذي مثله واخرجه ( اورسون ويلز) والمأخوذ عن نفس الرواية ..
ويبدو ان سوء الحظ جعل مني هدفا ممتازا للاشتباه فألقي القبض علي واودعت في مديرية الجرائم الكبرى بتهمة تشابه الاسماء بيني وبين احد الذين اقترفوا جريمة كبرى ...
اوضحت لقاضي التحقيق بانني انسان مسالم وبريء وان ثقافتي العالية لاتجعل مني انسانا يفكر بمخالفة القانون ..فكيف باقتراف جريمة كبرى ؟!..وتجاوب معي قاضي التحقيق ودوّن كل ماذكرته ووعدني خيرا بعد ان تعرض اوراقي على القاضي ..
وبدأ الوقت يمر بطيئا وانا اشارك مجموعة من الناس قاعة واحدة ..في البداية عزلت نفسي واكتفيت بإلقاء السلام عليهم ، ولكنهم اثاروا اهتمامي بكرمهم ولطفهم على الرغم من انني لا اتشابه معهم في أي مجال من مجالات الحياة بل بالعكس كنت اختلف معهم في كل شيء بدءا من اهتمامتهم الثقافية وانتهاء بعادات التدخين ولعب الورق والدومينو ..
وكان علي ان اعتاد على تواجدهم معي في نفس القاعة وكان علي ان اعتاد ايضا على تصرفات بعض ( الحراس ) الذين لايقدمون اية خدمة من دون مقابل مادي ..وكنت لا اميل لهذا التعامل ، لكنني كنت مضطرا للخضوع له..
وكان احد الحراس ويدعى (صبحي ) حريصا على الاستفادة من هذا الوضع اثناء نوبة حراسته التي بدات تتكرر بسبب اتفاقات مع حراس آخرين هدفها تبادل المصالح ..وهذا مايجعل الموقوفين مضطرين للتعامل معه..
وفي اول تعامل معه بادرني بعبارة غريبة ..اذ قال وبدون مقدمات :
" اسمع خالي ..هذني مالاتك لاتبيعهن علينه "
وعندما ابديت امتعاضي من كلامه ، قال لي بلهجة تهديد: ( بسيطة ) ..وسرعان ما ابلغت الموقوفين معي بتصرف الحارس (صبحي ) فنصحوني بالابتعاد عنه وتجاوزه...وقررت ان اقضي حاجاتي بمساعدة احد الموقوفين ..
وفي احدى الليالي طلب مني (صبحي ) النهوض من مكاني والتوجه الى شباك التوقيف ثم بادرني بصوت عال (استاذ ..مامحتاج شي ) ..كانت سخريته واضحة ، فاضطررت الى السكوت والعودة الى مكاني..
وفي الليلة التالية استدعاني (صبحي ) فامتنعت عن الاستجابة لطلبه ..ثم حدث مالم يكن في الحسبان ..اذ فتح الحارس (صبحي ) بوابة الموقف وطلب مني مرافقته للذهاب الى قاضي التحقيق ..
استجبت لطلبه ..وسرنا في الممر ..ثم توقف فجأة واشار الى احدى الغرف وطلب مني الدخول ..
امتنعت في البداية فأمسكني من كتفي ودفعني الى داخل الغرفة ..وانا مندهش من تصرفه ، ثم قام بوضع الجامعة في يدي وطلب مني الجلوس على الأرض ..فاضطررت للاستجابة ومرت ثوان قليلة وفوجئت بركلة في بطني ..ثم تتابعت الركلات وصرخت مستغيثا ..فقال لن يغيثك احد ..ماذا تتصور نفسك ..اليوم ستعرف حجمك ..
قلت له انني سأشتكيه للضابط ..وانه لايمتلك الحق باهانتي وتعذيبي فقال ( لن يستمع اليك احد وستكون تحت رحمتي ) ..فجأة ، سقط حبل او سلسلة حديدية من السقف ..ثم ربطني من يدي ورفعني الى الاعلى بشكل مفاجئ ..احسست فجأة بألم في كتفي وان ثقل جسمي تركز فيه ..صرخت ، وتوسلت ..فلم يستجب لتوسلاتي ..واستمر بتعذيبي ..مرة بعصا تنقل شحنات كهربائية لجسمي وتصيبني بالشلل ..ومرة اخرى بكيبل سلكي ..وثالثة بصوندة صلبة ..
كانت تلك الليلة ..اطول ليلة في التاريخ ..آلام ..ضربات ..كدمات ..شرر يتطاير من عيني اليسرى ..ودماء تسيل من فمي ..ثم احسست بانني غائب عن الوعي ولم يعد الي وعيي الا في الصباح..
فتحت عيني فوجدت اربعة من الموقوفين يحيطون بي ويحاولون تخفيف ألمي .." اطلب ان ينقلوك للمستشفى ، فحالتك لاتسر عدو ولاصديق " سمعت احدهم يقول ، وقال موقوف آخر "لاتتنازل عن حقك في الشكوى" ، قلت : " هل ستشهدون على ماحدث ؟..اجابوا بصوت واحد :نعم سنشهد "..
قلت مع ذلك فانا اخاف من معاودة صبحي لتعذيبي ..
سرعان ماقام احد الموقوفين وطلب من حارس الوجبة الصباحية ان يقابل الضابط ، فلم يستجب له ..وعندما كرر الطلب قال الحارس :" وماذا اقول للضابط ؟" قال الموقوف :" قل له لدي اعتراف جديد ."
بعد لحظات ، عاد الحارس ليخبر الموقوف بموافقة الضابط على المقابلة ، وتتابعت الاحداث سريعة بعد ذلك ، اذ قام الموقوفون بمساعدتي على النهوض ومغادرة التوقيف لمقابلة الضابط ..ثم نقلتني سيارة الشرطة الى المستشفى وحصلت على تقرير طبي يثبت حالتي وآثار التعذيب ...واعادوني لمديرية الجرائم الكبرى ..
في الليل ، جاء الحارس (صبحي ) ونظر الي نظرة تهديد ووعيد ، ثم اضاف ساخرا :" مارأيك ان نكرر حفلة الامس ؟"
طلب مني زملائي الموقوفين عدم اجابته او الرد عليه ..وفي الصباح ، كان هناك امر قضائي بحق صبحي ..
بعد عدة ايام ، كنت امام ضابط التحقيق الذي سألني عما حدث لي ، فتحدثت بالتفصيل عن (حفلة صبحي ) ، وقدمت التقرير الطبي ، تسارعت الاحداث اذ قدم (صبحي ) للمحاكمة ، وشهد اربعة من الموقوفين عما حدث ،وقررت المحكمة اصدار حكم بعشر سنوات سجن على الحارس (صبحي ) ومنعه عن ادارة امواله المنقولة وغير المنقولة ومنعه من رفع اية دعوى باسمه ، مع الاحتفاظ لي بالمطالبة بحقي بالتعويض ..ومع ذلك ..فلن انسى ماحييت تلك الحفلة التي اقامها لي الحارس صبحي ..وانني كنت على حافة الخوف..
وعندما تمر بالقرب مني سيارة لشرطة النجدة وهي تطلق اصواتها واضويتها ، تنتابني حالة من الرعب لإحساسي بأن هذه السيارة والجالسين فيها متجهون للقبض علي...