حاتم الصكر أوَ هكذا تمضي السنونويمزق القلبَ العذاب؟ونحن من منفىً إلى منفى ومن بابٍ لبابنذوي كما تذوي الزنابقُ في التراب
فقراء يا قمري نموتوقطارنا أبدا يفوتتلك الأبيات لعبد الوهاب البياتي صارت من مأثورات القصيدة العربية الحديثة ، و ملفوظات اللسان العراقي الملتهب بالهجرة وأدبياتها وثقافتها البديلة ، و أبرز تنويعاتها الجحيمية التي تكرر مآسيَ قدريّة لا يعرفها التاريخ البشري إلا في ندرة من تقاويمه المليئة بالكوارث.وهي أبيات من قصيدتين كتبهما البياتي إلى ولده علي ، مستبقا ما سيعانيه من موت في المنفى ، الذي كان أول من استخدمه مصطلحا ومكانا ، بينما كان الشعراء العرب يستخدمون (الغربة) التي تحف بها معان إنسانية أرق وأخف وطأة ، إضافة إلى بعدها الميتافيزيقي والأسطوري ، هكذا مثلا كتب الجواهري ( بريد الغربة ) وكتب السياب ( غريب على الخليج )وتحدث عن (غربة الروح في دنيا من الحجرٍ ) ، لكن المحرّك السياسي الحاد في وعي البياتي ومنهجه الأوربي في الكتابة الشعرية جعل المنفى أكثر المفردات ترددا في شعره ، في وقت مبكر.وفي ذكرى رحيل البياتي الذي مرّ قريبا (آب 1999) في دمشق حيث دفن في مقبرة الشيخ محيي الدين بن عربي ، استعدنا تلك النبوءة التي ظل يكررها في قصائده عن المنفى والحياة فيه والموت أيضا . كانت( أشعار في المنفى ) من دواوينه الأولى ، يوم لم يكن يتصور أن منافيه ستتعدد وتتباعد مكانيا وتطول زمنيا حتى تأكل عمره كله ، وكان المنفى لا يكف عن ضخّ واقعاته الفاجعة ودلالاتها التراجيدية ، فتموت مطلع التسعينيات ابنته نادية في أمريكا التي كانت – بمصادفة إغريقية فذّة- تقصف في اليوم نفسه مدن العراق ومعالمه في حرب الخليج ، فتتضاعف أغلفة المنفى وتزداد أثقاله وسلاسله، ويتجسد الموت الرمزي للجسد فيه ويغدو واقعا.كل حرية يهبها المنفى تسلبها لحظات العودة بالذاكرة إلى الوطن المشتهى ، هكذا تجاذب الحنين شعوريا وقسوة المنفى مكانيا أشعار البياتي، وصارا إطاراً سياقيا لا يمكن أن نقرأه بدونهما. في مختبر القراءة نكتشف أننا كنا قادمين لقصائد البياتي من حاضنة سيابية ، مبكرا تسيدت جيلنا الستيني بمجمله ذائقة سيابية تذهب إلى الحدائة برنين التاريخ الفني للقصيدة العربية بتراكيبها المتينة وصورها اللافحة وإيقاعاتها المميزة ، ولم تكن قد اكتملت بعد دورة التحديث لتصل مقترحات النثر إلى أرض القصيدة وتجتاز حصانة حدودها ، فكان المناخ العام سيابيا بإيقاع القصيدة وجملها الشعرية الطويلة وتغذيتها بالرموز و الأساطير و اندفاعتها الشعرية المتدفقة ، بينما كان البياتي يقترح مزاجا أوربيا أو غربيا بالمعنى الأدق ، فقصائده قصيرة ، وجمله كذلك مكتفية بالكلمات القليلة وزاهدة بالصور والبلاغة المعهودة ، مستعيضة عنها بما هو أرضي يلمه البياتي ليصنع منه كيان قصائده وبنياتها التي تشبه عمل المونتاج التجميعي ، وهو ما نبّه إليه إحسان عباس في كتابه المبكر عن شعره مبينا تلك المزايا المختلفة في ما كتبه البياتي من شعر حديث لم تكن تعهده ذائقة التجديد المنضوية تحت لافتة الشعر( الحر) الذي أكمل البياتي مثلثه ، ملتحقا بضلعيهِ الأساسيَين : نازك والسياب .قصيدة البياتي مصنوعة من أقرب ما إليه : عناوين مشهورة لكتب أو ظواهر سياسية واجتماعية ، وأعلام ثوريين وصوفية وشهداء فكر ومتمردين ، وأسماء قتلة وطغاة يناكدهم حتى وهم في قبورهم التي عفت عليها رياح التاريخ، ثم يجد لها أبسط المفردات وأيسر التراكيب ليسكَّها متنضدة في القصائد التي شاع ما يتطاير في ثناياها من صور، كحذاء الجندي الذي تتداوله الأيدي في السوق القديم ، والقمل والموتى الذين يخصون الأقارب بالسلام ، والمنافض المصنوعة من جماجم البورجوازيين والمنشقين ، وعرش الشاه الممنوح للشحاذ دليلا على أن الحياة عادلة ، وما تكرر فيها من رموز العشق لنساء مثل لارا وعائشة وخزامى وفاطمة و أميمة وياسمين ، وشهداء الفكر ونساكه: الحلاج والخيام والسهروردي وابن عربي والمتنبي والمعري وغاليلو وسقراط ، وكذلك ماحفلت به سيرته من مدن الشرق والغرب ومدن الأساطير الغارقة البعيدة : بخارى وسمرقند وبغداد ودمشق وعمان وصنعاء والقاهرة وروما وبرلين وأثينا ومدريد..ووسط هذا كله ينسج عالم الموت في الحياة والحياة في الموت، مسندا ذلك إلى ذاكرة تاريخية مستمدة من الأسطورة ، ومن ملاحظاته الدقيقة قارئا للتراث الأسطوري أن العراقيين القدامى يؤاخون الموت والحياة ، ويتخيلون الموت لحظة عابرة سرعان ما يعود منها الإنسان حيا ، لذا يرونه بينهم حتى
البياتي و الموت في المنفى
نشر في: 27 يناير, 2010: 04:59 م