حوار اجرته جريدة "السفير" 8/8/1989في ثمانينيات الحرب العراقية ـ الإيرانية كان البياتي خارج العراق، يأتي إلى بغداد زائراً، وعادة في مهرجان "المربد" الذي كان يقام سنوياً خلال الحرب، ومع هذا فلم ألتق البياتي خلالها إلا كما يلتقي غريبان في مطار ليغادر بعده كل منهما إلى جهته..
كانت الحرب على الجبهات، قد استهوت جيلنا لينقلها إلى جبهات الشعر! فكان يشن هجمات بلا هوادة ضد الرواد وقصيدتهم من دون أن تسمح الحياة الثقافية بالحوار. مؤخراً أتيح لهذا الحوار أن يبدأ بعد أن انفتحت هجرة جديدة لجيل جديد من الشعراء إلى خارج العراق. في دمشق أتيح لنا أن نلتقي وعلى امتداد أسبوعين حيث حضر البياتي للمشاركة في تكريم الجواهري فكان لقاء وكان كلاما متداخلا عن العراق ومنه هذا الحوار المدوّن عن الشعر: ـ المرأة، المدينة، القصيدة، مثلث التأنيث الذي يسافر فيه شعر البياتي، أين وصل بعد نصف قرن من السفر؟ كيف تكونت المرأة في شعرك؟ * المرأة في القصيدة غير المرأة في الواقع، فجوهر الحب هو الأصل، والمرأة مظهر من مظاهر هذا الجوهر، لهذا فالحب في شعري لا يعني امرأة بالذات، كما في شعر البرجوازيين الصغار، الذين يتغنون بالمرأة. صدقاً أو كذباً، فيؤلفون ما يسمى قصائد غرامية. شعري لا ينتمي إلى هذا النوع. الحب عندي يبدأ من امرأة واحدة، ربما ظهرت واختفت ذات يوم قبل خمسين سنة أو أكثر، لكن حبها ظل يحضر في صور شعرية، مثلما تظهر الآلهة في معتقدات الشعوب القديمة، في مظاهر الطبيعة بأشكال مختلفة، لكن القصيدة لا تعكس هذا التمظهر ـ إن صح القول ـ إنما تعكس جوهر الحب نفسه، بوصف الحب تجربة أو مغامرة عميقة تضع الإنسان على حافة الخطر، أو تجعله يشعر، دائماً، بأنه على حافة الخطر. في بداياتي لم تظهر المرأة بشكلها المحدد الواضح، كما في (ملائكة وشياطين)، فالمرأة في هذا الديوان أقرب إلى النموذج الرومانسي، لكنه ليس النموذج الرومانسي لدى علي محمود طه أو السياب. بل هي امرأة لكنها لم تولد، تريد أن تولد لكنها تظل في حالة المجاز أو حالة المطر أو الما بين! بعد ذلك، تحاول المرأة أن تتعين في أباريق مهشمة، لكن ولادتها لم تتم تماماً في هذا الديوان.. ربما ظهرت المرأة جوهر الحب وشكله الحقيقي ابتداء من نتاجاتي منذ منتصف السبعينيات، والتعبير عن الزمني والأبدي لهذه المرأة الأبدية، هو: المرأة الأولى التي تمثل جوهر الحب، أما الزمني فهو التجلي للمرأة الأخرى وهي في حالة تحول. ـ ألم تشع، في ظلال هذه المرأة، مدينة؟. * هناك إشكالية في موضوع المدينة، فالمدينة ليست التي ولدت فيها، فالولادة لهذه المدينة كانت قد تمت، أو أنها لم تتم بعد، وعندما أنظر إلى بغداد التي ولدت فيها لا أحس أنها بغداد القديمة، أو بغداد التي كان ينبغي أن تولد، إذ دخلت عوامل مختلفة شوهتها، وكلما قارب النضوج الاجتماعي والثقافي والفكري والحضاري على الاكتمال، دخلت عوامل على المدينة لتمزق نسيجها الحي، مثل الغزو الأجنبي، أو الداخلي، أو بالهجرة من الأرياف إليها. مثل هذه العوامل جعلت المدينة اشبه بثوب من الحرير أو النسيج، كلما أوشك على الاكتمال حلت خيوطه، ويبدأ من جديد، أحياناً بشكل فج وعشوائي لا بشكل أصيل. فالمدينة تحتاج إلى النضوج، والنضوج الحضاري لا يتم إلا بمزيد من المدارس والمتعلمين والمثقفين الهامشيين. المدينة بوتقة للاختمار الروحي، وما لم يكتمل هذا الاختمار فلن تكون مدينة، بل مجرد فندق كبير ومجمعات سكنية.. بغداد الطفولة كانت بالنسبة إلي هي المدينة المثلى، إذ انني كنت ألهو فيها أو أتجول في طرقاتها وأتأمل فضاءاتها قبل انبثاق الوعي لدي، غير أنني بدأت أعي بؤس المدينة والفقراء الذين يعيشون فيها، وبدأت الحقائق تتكشف لي ووجدت أن هذه المدينة أشبه بمدينة مزيفة أو شحاذ يلبس رداء مكوناً من خرق متعددة ومختلفة الألوان، لهذا لم يكن البحث عن النموذج هيناً، كان أشبه ببحث المتصوف عن الله. مدن الضرورة ـ لكن هل وصلت إلى تخوم مدينتك المفقودة؟ * حاولت في قصائدي أن اصنع نموذجاً للمدينة المثلى، لكن يبقى هناك فضاء بين المدينة الفضلى والواقع. معظم المدن في العالم مازالت مدن الضرورة لا مدن الحرية، مدن فيها بنوك، وسجون، ومدارس، وحدائق، وشوارع متربة، وذباب، ولصوص، وعيارون وشطار. يتجمع فيها الناس ويسرق بعضهم بعضاً بالقانون وغيره! وتهيمن عليها سلطة غاشمة. وهناك بقاع في العالم كادت تصبح مدن الحرية، لكنها مازالت "مدن ضرورة". لكن الشروط الإنسانية فيها أهون، خصوصاً المدن الأوروبية، الإنسان الأوروبي حر، لكنه يخضع لساعات العمل واليقظة والذهاب إلى المصنع أو المؤسسة التي يعمل فيها. هنا أتذكر قصيدة لجاك بريفير يصف فيها عاملاً كان يذهب كل صباح إلى العمل لكنه، ذات صباح مشمس، قرر أن يهب هذا اليوم لنفسه لا لصاحب العمل.. إنه تعبير عن هذه الظاهرة التي أشرت إليها. حاولت في شعري وصف نماذج من المدن، في "مراثي لوركا" حاولت تصوير مدينة تشبه ارم ذات العماد، لكنها ليست نسخة عنها، ارم ذات العماد إنسانية وليست الجنة. كذلك في قصيدة "بستان عائشة" أصور مدينة أو بستاناً، والقصيدة لا تتحدث عن امرأة، بل عن حلم إنساني في المدينة، مدينة ا
عبدالوهاب البياتي:الشاعرالحقيقي لا تحدّه سلطةوالذين يستسلمون ضعفاءلا شعراء
نشر في: 27 يناير, 2010: 05:13 م