هذه ترجمة للقسم الثاني من المراجعة الممتازة للسيرة الذاتية للكاتب - الفيلسوف كولن ويلسون والمنشورة عام 2005 في حقل مراجعات الكتب في موقع nthposition الإلكتروني للكاتب تود سويفت Todd Swift : الكندي الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية
هذه ترجمة للقسم الثاني من المراجعة الممتازة للسيرة الذاتية للكاتب - الفيلسوف كولن ويلسون والمنشورة عام 2005 في حقل مراجعات الكتب في موقع nthposition الإلكتروني للكاتب تود سويفت Todd Swift : الكندي الحاصل على شهادة الدكتوراه في الكتابة الإبداعية من جامعة إيست أنغليا البريطانية ، ويعمل أستاذاً جامعياً وناقداً ومحرّراً بالإضافة لكونه شاعراً نشر العديد من المجموعات الشعرية إلى جانب تحريره ( أو المساهمة في تحرير ) العديد من الأنثولوجيات الشعرية واشترك في إعداد كتاب كامبردج المساعد في الشعر الحديث الذي نُشِر عام 2013 . حصل على الجنسية الإنكليزية عام 2013 وهو يقيم في لندن منذ ذلك الحين.
المترجمة
تكمن المعضلة في ويلسون - بالطبع - أنه غادر لندن بعد وقت قصير عقب نشر كتابه ( اللامنتمي ) ، وأنه مع بلوغه الثلاثين من العمر كان يواصل السير بكل قوة ليكون كاتباً لن ينفك يواصل الكتابة لبقية سنوات حياته المديدة ، ومانعنيه بهذا هو أنه نشر بعد كتاب اللامنتمي نحواً من ثمانين كتاباً : سِيَر ، علم الجريمة ، روايات ، أعمال بشأن الظواهر المفارقة للطبيعة ، بل وحتى أنه كتب مسرحية حول ( سترندبيرغ ) . إن هذا الذكاء الاستكشافي المترافق مع شغف لايكاد يعرف تخوماً إلى جانب سعي وراء المعرفة يقابله ولع ورغبة في الكتابة ذاتها - هذا كله قاد بالطبع إلى إنتاج ويلسون لأعداد كبيرة من الكتب ، كُتِب بعضها لغرض تحصيل المال وكان بعضها الآخر مُحرّراً بعجالة ، ولكن هذه الكتب - من جانب آخر - قادت أيضاً إلى إنتاج كاتب عُدّ بذاته مكتبة كاملة وبطريقة لم يأتِ بمثلها كاتب إنكليزي معاصر من حيث التركيز على جوانب ثلاثة أو أربعة من أكثر الجوانب أهمية في القرن العشرين ، ومن الضروري الإشارة في هذا الجانب أن الكتابات المميزة لويلسون بحقّ برنارد شو إلى جانب إلقائه الضوء الساطع على الطبيعة البطولية لكتابات نيجينسكي وكذلك اكتشافه الفريد للكاتب ( هنري باربوس ) - كل هذه النشاطات تُعدُّ أفعالاً جوهرية مؤثرة من أفعال النزاهة النقدية بغية تثبيت الحقوق وتنسيب الفضل لصاحبه .
يُؤخذ على ويلسون في العادة انتقالته من الكتابة الجادة والمشبَعة بحثاً وتنقيباً بشأن اللامنتمين في الميدانيْن الفكري والفني ؛ الأمر الذي رأى فيه الكثيرون انغماساً في الكتابة التي بدت وكأنها تخاطب التوجهات المثيرة للحواس . ولكن الحقيقة الصارخة التي غالباً ماينكرها هؤلاء وعلى نحو يفتقد أدنى مقاييس المروءة هي أن ويلسون هو الكاتب الإنكليزي الأول الذي حلّل ودرس وكتب بجدية بيّنة عن موضوعات ذات أهمية عظيمة للكثيرين : القَتَلة الجنسيون التسلسليون ، الموضوعات السحرية والغامضة ، الظواهر غير المفسّرة ،،، الخ وعلى نحوٍ كفل تسليط الضوء على التقاطعات المشتركة بين تلك الموضوعات وإيجاد إطار فلسفي يجمعها معاً . ثمة أمر آخر يقع في خانة المسكوت عنه بشأن ويلسون : إنه سيّد نمط أسلوبيّ نثري خاص به وصار ميزة فارقة له ممّا دفع بكاتب من طراز ( سومرست موم ) إلى الإطراء عليه على الرغم من أن الكثيرين لم يعودوا يحبون هذا النمط الذي يوصف بأنه واضح ، مقتضب ، على شيء من الجفاف والصرامة وينطوي على نزعة تجريبية حاسمة . إن الكثيرين ممّن لم يقرأوا ويلسون يسارعون إلى القول أنه أبدى تساهلاً كبيراً في الكتابة عن كلّ أشكال ( الهوس المجنون ) السائدة ، ولكنّ العكس هو الصحيح ؛ إذ جاء قبوله المتنامي لإمكانية التخاطر أو الظواهر الفائقة للطبيعة على مضض وبعد سنوات من النزعة التشكيكية الصارمة التي لاتحيد .
إنّ ما أقوله هنا هو أن ويلسون وقبل أي كاتب مهمّ غيره (دوستويفسكي يقفز إلى الذهن طبعاً ولايمكن تجاوز ريادته ) هو أوّل من رأى الكيفية التي يتعشّق بها الانحراف الجنسي والعنف والميل للغلظة والسلوك العدواني في المجتمع الغربي ، وقد أنتج هذا التعشيق كوكتيلاً مسموماً من النزعة السلبية التي باتت تتفاقم على نحو مضطرد يوماً بعد يوم ، وغالباً ماتحفل كتابات ويلسون بشهادات صريحة عن الشر البشري الكامن في النفوس إلى جانب الرغبة التواقة للتطور والارتقاء في الوقت ذاته ، ولكن برغم هذه النزعة الشريرة المتأصلة في النوع البشري فإن ويلسون هو الكاتب الأوحد بين الكتّاب الوجوديين الأوائل الذي امتلك نزعة تفاؤلية على الدوام بحيث أنه سعى للارتقاء بالوعي البشري وجعله مُصمّماً لاستقبال ( الأخبار السارة غير المتوقعة ) طول الوقت ، كما وفّر خارطة طريق يمكن لأي إنسان لبيب أن يتخذها هداية للخروج من وحل مستنقع الرعب الجنسي الذي بات علامة مميزة للثقافة السائدة في عصرنا الراهن . إن ويلسون ليس بالهجين العجائبي المصنوع من أسيموف و باتاي و سارتر - رغم ان أعماله ترقى لحيازة شيء من المديات التي سعى لها هؤلاء الكُتّاب - بل هو كاتب مُشرّبٌ بالأصالة ويجب اعتبار تأثيره الثقافي مماثلاً لتأثير إدغار آلان بو ، وربما يكون الفهم الغريب الشائع صحيحاً بشأن تركيز ويلسون ذي العقلية المدربة تدريباً علمياً على الكتابة في موضوعات منفّرة ومضادة للسياقات الاجتماعية ومن أجل طلب المال حسب ، ولكن إذا ماتجاوزنا تلك الموضوعات وقصرنا النظر في الأعمال التي تعدُّ مثالية في التعبير عن كينونة الكاتب فحينئذ يبدو التشابه واضحاً للغاية بين الكاتبيْن .
دعوني أنهي الآن إطرائي لأعمال ويلسون بالعودة إلى سيرته الذاتية التي أراها مماثلة لسيرة ( بوب ديلان ) الذاتية - التي نُشِرت في كتاب مؤخراً - من حيث احتواء السيرتيْن على توصيف جوهري كامل للعبقرية الشابة المتفتحة وسط الأجواء الصاخبة لمدينة كبيرة ( ديلان في نيويورك ، ويلسون في لندن ) .
قرأ ويلسون آلافاً من الكتب التي كتبها كتّاب لامعون وربما كان الكثير منهم يماثلونه في عدم شيوع كتاباتهم ومخالفتها للتقاليد الثقافية السائدة ، وقد عمل ويلسون على توثيق مذكراته بشأن كل كاتب من الكتّاب الأهم الذين قرأ لهم وضمّن تلك المذكّرات في سيرته الذاتية ، ولكن ثمة أمر غريب وغامض معاً يشير إلى نزعة برناردشوية في ويلسون ؛ إذ في الوقت الذي تبدو فيه تلك المذكرات غير مترابطة في بداية الكتاب عندما يوغل ويلسون في الحديث عن تفاصيل حياته الشخصية ( يصف بالتفصيل مثلاً الملابس التي ارتدتها كل فتاة واعدها وهو لم يزل بعمر السادسة عشرة بعدُ ) ، لكن سيرة ويلسون الذاتية تبدو غير مسبوقة من حيث كونها سجلاً لرحلة كاتب شاب ومفكّر ( وفي حالة ويلسون تضاف عبارة " انتماء إلى الطبقة العاملة " إلى سلسلة توصيفاته ) امتلك موهبة هائلة وانتقل من مرحلة السذاجة المعرفية ليكون اسماً بارزاً في العالم الثقافي وهو لايزال في بواكير شبابه ثم انتهى به الأمر إلى عزلة شخصية شبه كاملة وهو يجول في عالم الفكر الشاسع حتى بعد أن تقدّم في العمر .
يكتب ويلسون في سيرته الذاتية وبحماسة غير عادية عن تجاربه الجنسية المبكرة والدافع الجنسي لديه : هو يفضّل الشابات الجميلات النحيفات عندما يرتدين ملابسهن الصيفية ، وكانت له بالفعل جولات حبّ مع الكثيرات منهنّ قبل أن يستقرّ به المقام أخيراً مع زوجته ( جوي ) . نلمح في الفصول الأولية من السيرة الذاتية نمطاً طاغياً من السلوكيات الجنسية السيكوباثية التي يصف فيها ويلسون وبطريقة مفرطة الدقة مغامرات شباب صغار مع فتيات صغيرات في الغرف المكتظة بالنزلاء أو على سفوح تلال تشهد هبوب رياح منعشة ، وهنا يُدفّع القارئ دفعاً بعد قراءته تلك الفصول للعودة إلى حيّ سوهو اللندني والضياع في متاهته التي يطارد في دهاليزها الروائيون الناشئون المتطلّعون النادلات الشابات المثيرات ذوات الخصور الضامرة والصدور الممتلئة وقصّات الشعر الصبيانية القصيرة .
على كل حال ، وبينما كان المؤلف ينضج عمراً وخبرة راحت فصول الكتاب تنزاح من الإيغال في تفصيل الحديث عن نزواته الجنسية ونزوعه الفيتيشي المهووس في التلصص على الملابس الداخلية للنساء ، وبدأت الفصول الجديدة تحكي عن الانشغالات المزمنة الأكثر تأثيراً في حياة رجل ناضج : الحياة الزوجية ، القلق ، الكتب وشؤونها ، جولات السفر مع كتّاب آخرين ،،،،، ثمّ يتصاعد الخط الفكري في السيرة الذاتية لينتهي بمناقشة موضوعات مثل قارة أتلانتيس المفقودة وإمكانية حيازة الجنس البشري لقوى حدسية عظيمة غير معهودة اليوم لكنها كانت أمراً شائعاً قبل مايزيد على المائة ألف سنة كما يرى ويلسون.
يظهر ويلسون مثيراً للمشاعر الجياشة عندما يكتب في سيرته الذاتية عن عجز المرء على إدامة جسر من التواصل العاطفي مع أبويه ، وتبدو كتابته فاتنة بشأن الكُتّاب والفنانين والفلاسفة الكِبار الذين عرفهم في حياته . في نهاية الكتاب - السيرة الذاتية يدوّن ويلسون جملةً من قناعاته الذاتية - تلك القناعات التي أوصي أي قارئ بأن يدرسها ويطيل النظر في دلالاتها ، ومن المؤكد أن البشرية عندما تعاني في عصرنا هذا من عواقب كارثية منذرة بأخطار جسيمة - مثل التدهور البيئي الشامل - فإن قناعة ويلسون القائمة على أساس أن البشرية يجب عليها ( ويمكنها ) الارتقاء على نحو متسارع بفعل الإرادة الفريدة في نوعها للإنسان - هذه القناعة لوحدها ( من بين قناعات كثيرة أخرى لويلسون ) أراها جديرة بإعمال النظر من قبل كل فرد وعلى نحوٍ يماثل - بل ربما يفوق حتى - الاهتمام بالتوجّهات والممارسات الروحانية الراسخة . إنّ من الأمور المثيرة حقاً أن كاتباً مفكراً ذا أصالة مثل ويلسون لم يَسْعَ إلى تثبيت موقعه كأحد الغوروهات المعلّمين في العصر الجديد ، بل على العكس سعى الرجل دوماً للحفاظ على صورة ( المثقف اللامنتمي ) الذي كان له قصب السبق في الكشف عن ملامحها وتشخيصها في عصرنا الحالي .
ربما لن يعجب ويلسون كثيراً بقناعتي التي سأقولها الآن : أرى أن شهرة ويلسون - مثل ييتس - هي ليست في نهاية المطاف إحدى ثمار الحقائق الخاصة بطريقة عمل منظومته الشخصية بل بالطريقة الثابتة والمنتجة والجديرة بالنظر التي كرّس بها حياته لتكون شبيهة برحلة أراد منها غاية واحدة لاغير : الطريقة الممكنة التي يمكن بها الحصول على رؤية مستبصرة لعالمنا . إن ويلسون شخصية ينبغي الحفاظ عليها وتوقيرها بما تستحق ؛ فهو أكثر حتماً من محض أيقونة متحفية نادرة أو شخصية نزوية مهووسة - إنه كاتب عظيم متفرّد يمثل تحدياً لعقل القارئ ، ولاتزال حماسته المتّسمة بالكرم والسخاء بشأن الكتابة عن حيوات أفراد مبدعين تستحق بكل جدارة أن نقابلها بحماسة متجددة تجاه ويلسون.