هل استمتعت سونتاغ بصنع " أراضي الميعاد " ، فلمها الوثائقي المجزّأ عن حرب يوم الغفران عام 1973 ؟ بعد فترة قصيرة من إتمامه ، وبعد الاستقبال الفاتر له ، كتبت : (( صنع فلم هو تعييب منمّق ، حَصَر نفسي ، رُهاب احتجاز ، استنزاف ، شعور بالخفة . صنع فلم هو ال
هل استمتعت سونتاغ بصنع " أراضي الميعاد " ، فلمها الوثائقي المجزّأ عن حرب يوم الغفران عام 1973 ؟ بعد فترة قصيرة من إتمامه ، وبعد الاستقبال الفاتر له ، كتبت : (( صنع فلم هو تعييب منمّق ، حَصَر نفسي ، رُهاب احتجاز ، استنزاف ، شعور بالخفة . صنع فلم هو القبض على إلهام طائر . صنع فلم هو إفساد الصيد ، وأحيانا معرفة أن الأحمق الجدير باللوم هو نفسك . صنع فلم هو غريزة عمياء ، حسابات تافهة ، قيادة ناعمة ، حلم يقظة ، عناد ، مِنة ، خداع ، مجازفة . ))
لم يكن الأمر سهلا عليها . سونتاغ ، التي توفيت عام 2004 ، والتي كانت تعرف بـ " سيدة الأدب الامريكي الغامضة " ، هي المنتجة لمقالات ، روايات ، قصص قصيرة و مسرحيات مؤثرة . لكن في كتابات موثوقة حول الثقافة ، الفوتوغراف وكل شكل من أشكال السينما ، من الخيال العلمي الى الموجة الجديدة ، وضعت لنفسها مهمة مروّعة عندما وقفت وراء الكاميرا وأصبحت سيدة الصور . لا واحدة من هذه اوقفتها عن المحاولة .
إنه واقع لا يعرفه الجميع ، وهو ان سونتاغ صنعت أربعة أفلام رئيسية ، الثالث بينها ، " أراضي الميعاد " ، هو الأكثر استثنائية . الفلمان الأولان ، كانا دراما برغمانية فرعية في اللغة السويدية ، أما الرابع فهو اقتباس عن قصة قصيرة لها عنوانها " جولة بلا دليل " ، حكاية انهيار علاقة تدور احداثها في فينيسيا . يتعلق " أراضي الميعاد " بحرب تشرين الأول التي دامت عشرين يوما ، والتي اتحدت فيها مصر وسوريا للقيام بهجوم مفاجئ على اسرائيل . وحتى قبل أن تنتهي احداث الحرب ، تركت سونتاغ العالم الدافئ المريح لأهل الفكر اليهود في نيويورك للذهاب الى هناك وتوثيق ما رأته .
مغامرة مثل هذه ، لم تكن غريبة على سونتاغ : كانت كتبت كتابها " رحلة الى هانوي " قبل سنوات قليلة من ذلك . لكن هذه الرحلة أخذتها ، وعلى نحو مبدع ، بعيدا أكثر عن عالمها المريح . في ذلك الوقت ، كانت منهمكة في كتابها " حول الفوتوغراف " ، سلسلتها الشهيرة من المقالات التي توجز القضايا التي ستجد نفسها تتصارع معها على الأرض في إسرائيل . كتبت قائلة عن الفوتوغراف أنه (( أداة قوية تنقض السمة الشخصية عن علاقتنا مع العالم . )) وتحذّر من ان المعرفة الفوتوغرافية ((لا يمكن أن تكون أبدا معرفة أخلاقية أو سياسية )) . كانت تقارن الكاميرا بالبندقية . ثم ذهبت الى اسرائيل لتصوِّر الدبابات المخرّمة بالقذائف والبقايا المفحّمة للجنود . مثلما كانت كتابات سونتاغ غزيرة الإطلاع على مفكرين اوروبيين مثل رولان بارت ووالتر بنجامين ، كذلك أصبح المؤلفون الاوروبيون أدلاءها السينمائيين ، وبوجه خاص جان- لوك غودار . كانت سونتاغ أثنت على فلم غودار " لتحيا حياتها " ( 1962 ) ، حول انحطاط امرأة باريسية الى الدعارة ، وهو مروي من خلال 12 مشهدا لاترابط جوهريا بينها . كتبت عن الفلم داعية إياه بـ (( معرض ، مظاهرة . إنه يُظهر ’ أن ‘ شيئا حدث ، لا ’ لماذا ‘ حدث )) ، تماما مثلما كتبت : (( أن تفسّر هو أن تفقر ، أن تفصد العالم . ))
وفقا لذلك ، فإن " أراضي الميعاد " هو فلم وثائقي أقل مباشرة من كولاج بصري . هناك صور لمناطق معركة وجنود ، لكن أيضا صور حياة شارع يومية ، مناظر صحراوية ، جنازات ، أسواق ، حائط المبكى . المدرج الصوتي للفلم هو نتف من أصوات راديو ، أجراس كنيسة وطلقات رصاص ومقطع من حديث لمفكريَن اسرائيلييَن معارضيَن سياسيا ، العالم الفيزيائي يوفال نعيمان والكاتب يورام كانيوك ، الذي يقول: (( اليهود لم يفهموا أبدا المأساة .))
مع هذا ، ليس من الواضح تماما ماذا نرى ومَن نسمع ، خاصة بعد أربعين سنة . سونتاغ نفسها ربما كانت غير واضحة ، تقول ايللا شوهات ، السينمائية الاسرائيلية التي قدّمت " أراضي الميعاد " عند عرضه في مهرجان الفلم الفلسطيني في لندن الإسبوع الماضي . (( لا أعتقد انها تعرف جيدا المجتمع الاسرائيلي في مجال الانتماء الأخلاقي ، الطبقة ، اللغة ، اللهجات . وما من سبب يدفعها الى ذلك . كان حقا فلما عن اسرائيل [ مرئيا بعين ] امريكية يهودية لم ترتبط بالضرورة بالديانة اليهودية أو الصهيونية . ))
محاولات سونتاغ تبعا للحياد الغوداري لا تقبل التسوية في النهاية ، تقول شوهات : (( الفلم ليس متعدد الأصوات ، حرفيا ومجازيا . )) لايُسمع صوت للفلسطينيين ، ولا لأية إمرأة . بدلا من ذلك ، يكون وضع اسرائيل المعقد مقدما من قبل رجلين ، نعيمان وكانيوك . (( إنها تتحول في الفلم الى توكنغ هَد [ مقدم برنامج على التلفزيون يواجه الكاميرا بلقطة كلوز- آب ] عالمية بأسلوب وثائقي عندما تجري مقابلات معهما ــ بالضبط من النوع الذي يسخر منهم وودي ألن في " زيلغ " . ))
لكن " أراضي الميعاد " يفيد من العين التي ترى بها سونتاغ من الخارج كيف أعلنت اسرائيل عن نفسها بنفسها. ثمة لقطات لبوسترات ، إشارات شوارع ، شعارات ــ أنظمة من الصور داخل نظام الصور الخاص بالفلم . بعض من مشاهده الأكثر تأثيرا تتعلق بمونتاج لمعارض صغيرة على متحف شمع غرائبي ، تمثل تاريخ اسرائيل بلوحات بطولية عن التضحية اليهودية . وفي الذروة المزعجة للفلم نزور عيادة تحاول شفاء الجنود نفسيا من الإضطرابات بعد المعركة بإعطائهم جرعات من المخدرات وتقليد جو الحرب . يدفن المريض رأسه في وسادته بينما الأطباء يقرعون الأبواب بشدة ويضعون شريط تسجيل لأصوات إطلاق النار ــ تجسيد ساخر لمعركة يبدو أكثر تعذيبا من العلاج .
بفضل مثل هكذا مشاهد غير مجمّلة ، تمّ حظر " أراضي الميعاد " في اسرائيل . كما لم يرحب به بشكل خاص في الولايات المتحدة أيضا . (( ربما كان يجب أن يكون كتابا بدلا من فلم ، )) كما قالت النيويورك تايمز بازدراء . لكن هدف سونتاغ الرئيسي كان (( تقديم حالة أكثر من تقديم حدث )) . ورغم كل العثرات ، نجحت في ذلك . حرب 1973 تركت اسرائيل في حالة من الإرباك والتحرر من الوهم ، للمرة الأولى منذ قيامها . السينما الاسرئيلية نفسها سوف لا تسجل ذلك التغيّر لعقود .
عن/ الغارديان