في رواية "كتاب الضحك والنسيان" للروائي التشيكي ميلان كونديرا المولود في عام 1929 يحاول ميريك الشخصية المحورية ان يوصل للقارئ ما حدث في تشيكوسلوفاكيا ابان اجتياح جيوش حلف وارشو مدينة براغ في يوم 21 اب من عام 1968 .. فداست الدبابات شوارع وا
في رواية "كتاب الضحك والنسيان" للروائي التشيكي ميلان كونديرا المولود في عام 1929 يحاول ميريك الشخصية المحورية ان يوصل للقارئ ما حدث في تشيكوسلوفاكيا ابان اجتياح جيوش حلف وارشو مدينة براغ في يوم 21 اب من عام 1968 .. فداست الدبابات شوارع وارصفة براغ الهادئة الوديعة لتسحق حركة الاصلاحات التي نادى بها المثقفون والعمال والادباء والطلاب وتعاطف السلطة معهم فيما سمي بـ "ربيع براغ" .. كان كونديرا قد سجل المشهد المؤلم في روايته ، نصف مليون جندي يحتل براغ في ثلاث ساعات ! . والقبض على الاصلاحيين ومن بينهم " دوبتشيك " 1921 – 1992 ، امين الحزب الشيوعي التشيكي الذي رضخ اخيرا لضغوط المثقفين واعلن عن حزمة اصلاحات لكنها لم تر النور واغضبت بريجينيف في موسكو الذي اعتبره متخاذلا أمام حفنة كتاب وصحفيين وشعراء ..
المثقفون هبّوا للمقاومة السلمية فاستخدموا اقلامهم في المقالات والقصائد والروايات وان كان بعضها باسماء مستعارة .. كونديرا احد المقاومين للاحتلال المفاجئ ، لم يعجبه الوضع تماما فما كان منه الا سرد الحدث في روايته "لم تكن روسيا ، التي اخذت على عاتقها تأليف معزوفة الكرة الارضية العظيمة ، لتسمح بشرود النغمات . وبذلك ارسلت يوم 21 آب 1968 جيشا تعداده نصف مليون جندي الى بوهيميا " ص 18 . وايضا جاء وصف ذلك ايضا في كتاب دوبتشك الشهير "الامل يموت اخيرا" .. وهو امر ليس بجديد اذ حدث قبل ذلك في هنكاريا عام 1956 وتم قمع الثورة وفي بولندا قبل شهور من ربيع براغ وتم فيها قمع ثورة الطلاب عام 1968.. هي صحوة الروائي اذن ، ومعه بضعة ادباء معروفين امثال الشاعر والمسرحي بافل كوهوت والروائي ايفان كليما والكاتب المسرحي فاتسلاف هافل ( 1936 – 2011 ) وهو رئيس سابق للبلاد ، كتب اكثر من عشرين مسرحية ، والروائي لودفيك فاكوليك صاحب رواية "الفأس" 1967 وهي السبب الذي اثيرت حوله الشبهات بمحاولة الانشقاق عن الحزب وكتب رواية "خنازير غينيا" التي شجب صراحة فيها احتلال براغ والروائي لاديسلاس مناكو لنومنكلاتورا الذي اصدر روايته "مذاق السلطة" عام 1967 هاجم فيها الحزب هجوما لاذعا .. فتم طردهم من وظائفهم وقطع وسيلة عيشهم "بعد احتلال الروس لبلدي عام 1968 طردوني من عملي على غرار الاف التشيكيين ولم يسمح لاحد بتشغيلي" الرواية ص 67 . كانت محاولات كونديرا برفض نظام الحكم بدأت بنشره مقالات باسمه الصريح وخاصة في فصلية براغ الثقافية "ليتيرارني نوفيتني" وكان منتقدا للنظام ومقترحا حلولا للاصلاح ..كما اصدر روايته "المزحة" عام 1967 وفيها انتقاداته الجريئة للسلطة . في روايته "كتاب الضحك والنسيان" يريد كونديرا ان يترك اثرا للاجيال التي لم تعش احداث براغ ، وان كل ما حدث ليس سوى نكبة تعرضت لها بلاده .. احتوت الرواية على مقاطع تقريرية وخبرية لاعتقاد كونديرا بأنه اسلوب مفهوم لجمهور واسع من القراء ولو كتبها باسلوب روائي بلغة الرواية الحديثة قد لا يفيها حقها .. حاول كونديرا اعطاء الامر اهمية بالغة وصورة واقعية دون تزويق للاحداث وبأن احتلال الدول واستباحتها ليس بالامر اليسير في حياة الشعوب والتي لا يمكن نسيانها او اهمالها في الذاكرة .. رواية المثقف المقاوم بوعيه والمتضرر الاول من نتائج الاحداث وخاصة الانتقاص من هيبته والقاء القبض عليه اسوة بالمجرمين وقطاعي الطرق ونجاح البعض من الافلات من قبضة السلطة والهروب من البلاد بعد فقدان الوظائف بأمر حكومي ..التركيب العام للرواية تشكل من سبع حكايات او قصص تجمعها وحدة الموضوع مصاغة باسلوب الكتابة السهل التقليدي ولم يكن كونديرا مهتما كثيرا بالحداثة فيها ، فلم يهتم كثيرا بتقنيات السرد انما اهتم بالشكل المؤدي الى الهدف الذي سعى اليه .. ويقول كونديرا عن الرواية "يتخذ هذا الكتاب بكامله شكل تنويعات لحنية ، اذ تتوالى اجزاؤه مثلما تتعاقب اطوار رحلة تقود الى عمق موضوع ، عمق فكرة ما ، او تقود الى وضعية واحدة فريدة يصعب علي فهمها لضخامتها" الرواية ص 183. كتاب "الضحك والنسيان" ، رواية السهل الممتنع ، تراه بسيطا خاليا من التعقيد والتراكيب الكلامية ، الفكرة واضحة واللغة اكثر وضوحا .. تضم مانشيتات ووصفا انشائيا ممتعا عن الكثير من المصادفات الغريبة والوقائع التي جرت إبان أحداث براغ فاوصلت الفكرة بأن الكاتب كان احد ضحايا المطالبات بالتغيير وكان امر نفيه جاهزا لولا خروجه طوعا حفاظا على كرامته وهو امر قد حسد عليه لاحقا ، لأن الآخرين الذين فضلوا البقاء كان نصيبهم الذل والتسكع في شوارع براغ غير مأسوف عليهم .. في الرواية كان السرد متداخلا مع المقال والريبورتاج الصحفي والمواقف غير المتوقعة معززة بالتواريخ والأمكنة والشخوص "اتخيلها وقد استيقظت في احد صباحات آب مفزوعة من صوت الطائرات المروع ، تخرج جارية الى الشارع ، ويقول لها بعض الناس المذهولين ان الجيش الروسي احتل بوهيميا . تنتابتها نوبة من الضحك الهستيري ! فقد جاءت الدبابات الروسية لمعاقبة كل الخونة ! " الرواية ص 20 . الضحك في الرواية ليس مجردا من المشاعر وليس لمجرد الضحك وليس ارتجاليا ، انه في محله ، يؤكد دائما انه يعبر عن استباحة الانسان وكسر ارادته وفقدانه للامل ، انه الضحك المخلوط بالحزن النابت في النفوس .. انه ضحك الهذيان والنسيان في الوقت ذاته "كل الكنائس ، وكل صانعي الالبسة ، وكل الجنرالات ، وكل الاحزاب السياسية متفقون على هذا الضحك" الرواية ص 67 . ميريك في الرواية هو كونديرا الذي تكلم عن كل شيء فصارت الرواية سيرة ووثيقة تؤرخ مرحلة هامة من تاريخ تشيكوسلوفاكيا في الستينيات وهو التاريخ الماثل امام كل الروائيين الذين عاصروا وشاهدوا كيف تموت امتهم تحت بساطيل الغزو .. الرواية خليط غريب بين الجد والسرد الموثق وبين الضحك الذي ابتليت به الشخوص "انها رواية تدور حول الضحك والنسيان ، حول النسيان وحول براغ ، وحول الملائكة " الرواية ص 183.
خرج كونديرا بعد ليلة عصيبة يحاول فيها اتخاذ قراره الاخير ولم تكن في باله جهة الاحلام البديلة ان كانت شرقية ام غربية ، كانت ليلة القرار الاخيرة اذن، في صباح براغ التالي قرر الذهاب الى فرنسا ، لان شغفه بالادب الفرنسي واعجابه بالجنرالات الذين قاوموا النازية وقراءاته للروائيين والادباء الكبار امثال اناتول فرانس ، اميل زولا ، اندريه جيد ، بول فاليري ، بروست . ولان فرنسا بلد الظواهر الجديدة والمدارس والتيارات الادبية والفنية التي اثرت في آداب وفنون العالم كالسريالية واهم منظريها كان اندريه بريتون ، ولويس اراجون ورينيه شار وبول بولارد اهم روادها ، والوجودية ومؤسسها جان بول سارتر ، وظهور مسرح اللا معقول بكتّابه المتميزين امثال صمويل بيكيت واوجين يونسكو، والرواية الجديدة التي انشأها الن غروب غرييه وكلود سيمون وناتالي ساروت وميشيل بوتور ، هذه هي فرنسا اذن ، فالتحق بزملائه الذين هاجروا قبله اليها مثل اوجين يونسكو الروماني وناتالي ساروت الروسية وصمويل بيكيت الايرلندي . فاختار فرنسا بلدا ليمنحه الجنسية التي سحبتها منه بلاده التي شرد من اجلها لانه كتب روايته " كتاب الضحك والنسيان "..
اختيرت الرواية من بين افضل مائة رواية عالمية وهي القائمة التي اعتمدت بين عامي 1605-2001 . وجاءت بالمرتبة الرابعة والتسعين ..
ترجم الرواية الى العربية المترجم والناقد الفني المغربي المثابر محمد التهامي العماري الذي فاز بجائزة الاطلس الكبير لسنة 2010 عن ترجمته لرواية " كتاب الضحك والنسيان " لميلان كونديرا ، وهي الجائزة التي تنظها مصلحة التعاون والعمل الثقافي في السفارة الفرنسية بالمغرب منذ سنة 1991 وتمنح للفنانين والمثقفين المغاربة المتميزين . كما فاز بالجائزة مرة اخرى سنة 2012 عن ترجمته لرواية ميلان كونديرا "الحياة في مكان اخر"..
• رواية كتاب الضحك والنسيان ، لميلان كونديرا ترجمة محمد التهامي العماري ، الناشر المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء الطبعة الثانية 2015 .