النظر الى الأعمال الجميلة يمنحنا عادة أحساسا بالرضا، حيث يداعب الجمال العين ثم ينساب بعدها شيئاً فشيئاً نحو الروح ليستقر هناك بطمأنينة وثبات الى الأبد. فالجمال يشبه شمعة تضيء لنا الطريق، هو مثل صباح يمنحنا الطمأنينة من خلال يوم جديد وجميل. وفي الرسم تنبع قيمة كل ذلك من خلال موهبة الفنان وتقنيته وخياله واختياره لزاوية المشهد الذي يرسمه. ربما تكون هذه الكلمات مدخلاً مناسباً لعالم الفنان منصور البكري في رسم البورتريت. هذا الفنان الرائع الذي تأملت أعماله على مهل وأطَّلعت على تقنيته ومعالجاته بأعجاب. تحسست ذلك عن قرب، وقد زرت مرسمه في برلين وتحدثنا كثيراً عن ذلك، ونِمتُ ليلتي في المرسم وسط هذه البورتريهات التي شعرت بأن شخصياتها تحاورني وجمالها يحرسني في الليل، حتى جاء الصباح شيئاً فشيئاً، فبانت لي هذه الرسومات مثل فجر يأتي وفي فمه ملعقة من ذهب. البورتريهات التي يرسمها منصور البكري أراها علامة فارقة ومصباحا فريدا يمنحنا ضوءاً جديداً ومختلفاً أيضاً، يمتزج فيها الماضي والحاضر بطريقة مميزة فيها الكثير من السحر والخصوصية. وكلما أمعنا النظر في هذه البورتريهات كلما شممنا عطرها الخاص وعذوبتها الممزوجة بتراجيديا عميقة، تراجيديا تعلوها مسحة من الدعابة أو لمحة من التهكم أيضاً، وذلك ما يجعلها تقترب من الكوميديا السوداء. إضافة الى ذلك فإن روح منصور والأشياء التي يحبها وكونت شخصيته، نراها تنعكس على محيا الشخصيات التي يرسمها، فبورتريهاته الفريدة هذه تحيلني الى الأفلام التي يحبها والموسيقى الطليعية التي كان شباب بغداد يستمعون اليها، أرى في رسوماته صدى أبطالنا الذي أحببناهم ومازلنا نحبهم، رسوماته تعيد لي عطر سينما غرناطة وأفلامها الاستثنائية، وتذكرني بالباص الأحمر ذي الطابقين الذي كان يجوب شوارع بغداد، تسحبني نحو بنطلونات الجارلس التي كانت تتمايل لتشير الى تلك الحرية التي كنا نملكها وفقدناها الآن مع الأسف. منصور من خلال هذه الرسومات الجميلة، نجح في أن يفتح نافذته بشكل صحيح وجميل ومناسب أيضاً.
ذات مرة سأل احد الصحفيين المخرج سبيلبرغ قائلاً (كيف تخرج أفلامك، ومن أين تأتي بكل هذا الخيال وهذه الغرابة؟) فرد سبيلبرغ قائلاً (أحببت أفلام الكارتون دائماً، لهذا أحاول في أفلامي أن أحوّل أفلام الرسوم المتحركة الى حقيقة). وهذا يشبه كثيراً مايقوم به منصور في أعماله وبورتريهاته، وقد وظف بشكل لامع عمله في المجلات المصورة والكاريكاتير مع خبرته الأكاديمية ليخرج لنا منتشياً بهذه النتائج الباهرة ويسرد لنا حكايته مع فن البورتريت. أتجول بين عشرات الوجوه التي رسمها منصور وأتوقف لأتأمل الغياب الذي رسمه على وجه طه حسين الذي يظهر غائماً وبعيداً، هناك أحساس بالضبابية والرمادية التي تغشي بصرنا بحيث نبدو نحن المشاهدين لا نراه بشكل واضح، مثلما لا يرانا هو أيضاً. هذا البورتريت يبدو لي مثل تمثال من الشمع الذائب. وهنا لا يشير منصور الى العمى من خلال النظارة السوداء، بل من خلال هذه الضبابية التي تغطي سطح العمل. وفي بورتريت بريخت تطل علينا تلك النظرة الحزينة الساخرة، حيث خصلة الشعر تنزلق على جبينه بلا مبالاة وهو يضع يده على ذقنه كأي مثقف جاد. وهناك الغموض الذي يغلف بورتريت مارلون براندو وكأنه يجلس في مكان مظلم لتسقط أضاءة بسيطة على الوجه ليحيلنا الجو العام الى شخصيته في الفيلم الشهير "العراب". أتأمل بورتريت جيمس دين فأرى القلق الذي يلتمع في عينيه وحالته النفسية المرتبكة. وألتفت لبورتريت مايكوفسكي لتداهمني النظرة السوداوية للشاعر الكبير، هذه النظرة التي تغوص عميقاً في النفس البشرية، نظرة مليئة بحزن كبير وكأن منصور يُرينا هنا كيف يمضي الشاعر قدماً نحو انتحاره المحتوم. يقدم لنا منصور هذه البورتريهات وغيرها الكثير،عبر أسلوب مدهش ورائع مزج فيه أقلام الرصاص مع الحبر وألوان الأكريليك والمائية مع أستعمال تقنيات رائعة مثل الفرشاة الجافة لتكون النتيجة أعمالاً بهذه القيمة وهذا الجمال وهذا الحضور الآسر.
منصور البكري.. بورتريهات مليئة بالسحر
[post-views]
نشر في: 24 يونيو, 2016: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...