TOP

جريدة المدى > عام > شعرية آخر العمر.. ما قاله ياسين طه حافظ في مخاطباته وسياحاته الصوفية

شعرية آخر العمر.. ما قاله ياسين طه حافظ في مخاطباته وسياحاته الصوفية

نشر في: 26 يونيو, 2016: 12:01 ص

من حق الشاعر ،أي شاعر ، ان يعيد تأمل حياته وتجربته عندما يصل إلى خريف العمر ،ويتفحص جيدا موقع قدميه ، وهو يشق طريق الحياة والشعر معا ، بصعوبة وخوف من الآتي والغامض من الأيام . والشاعر ياسين طه حافظ ، وهو يقترب من الثمانين ، وفي جعبته أكثر من عشرين دي

من حق الشاعر ،أي شاعر ، ان يعيد تأمل حياته وتجربته عندما يصل إلى خريف العمر ،ويتفحص جيدا موقع قدميه ، وهو يشق طريق الحياة والشعر معا ، بصعوبة وخوف من الآتي والغامض من الأيام .

والشاعر ياسين طه حافظ ، وهو يقترب من الثمانين ، وفي جعبته أكثر من عشرين ديواناً شعرياً واكثر من عشرة كتب موضوعة ومترجمة ، من حقه أيضا ان يتوقف قليلاً ليطل على مسيرة العمر التي تركض ، وان يقدم حكمته ورؤيته ومخاطباته لنفسه وللآخرين . وهذا ما راحت تؤشره دواوينه الاربعه الأخيرة : "ولكنها هي هذي حياتي" و"في الخريف يطلق الحب صيحاته" و"ديوان فاطمة " الصادرة كلها عام 2012 , وأخيرا ديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" الصادر عام 2014 .
يبدو لنا الشاعر ياسين طه حافظ , انه قد ادرك ان عليه ان يعترف بوطأة الزمن الثقيلة على حياته ، ولذا فقد قرر ،ربما مثل أبي العلاء، أن يخفف الوطء قليلاً وان يتأمل ملياً في الحياة ليستنبط حكمتها مثل درويش بغدادي ، يحصي سنوات حياته ويسترجع تجاربه في الحب والحياة ، والتي راحت تتوشح بغلاله صوفية وروحية شرقية شفافة ، اخذت تهبط عليه بهدوء وهو في صومعة الشعر والحياة.
فهل ثمة شعرية خاصة ومتميزة تمثل هذه التجربة التأملية العميقة ، تميزها  عن شعرية أول العمر وأوسطه.  ليس من اليسير الإجابة عن مثل هذا السؤال الإشكالي . فالشاعر يواصل تجربته الشعرية الخاصة ، ولم يفارقها.  فهو اعتمادا على طاقة قصيدة التفعيلة التي يعشقها والتي تستدرجه أحياناً إلى تلذذ إيقاعي ونبري ولساني ، ذهني أحيانا ، يخلق من خلال سلسلة من المعادلات الموضوعية ، الدرامية أو المشهدية التي يستلها من حيوات أخرى، بنية قصيدة حداثية ، تميل إلى ما هو مأنوس وخافت ، وتهرب قدر الإمكان من ضجيج اللغة البلاغية المصطنعة ، ومن إيقاع التطريب والقافية ، مكتفيا بدثار الإيقاع الدافئ الخفي واللامرئي أحياناً . لكنه في شعرية آخر العمر يبدو أكثر هدوءاً ودعةً ، فقد ولى عهد الشباب وجموحه وعنفوانه، وآن للجسد وللفكر ان يعترفا بوطأة الزمن والعمر . ويبدو ان محطة استراحة الشاعر قد وجدت معتكفها في الانغماس في لون من النشوة الروحية والصوفية الشرقية التي جمع فيها حكمة الشرق بكامله ، بعدما  أحس ان الحداثة قد أخذته بعيداً أكثر مما ينبغي من جذره الشرقي والروحي الذي نهل منه قبله شعراء الغرب واغتسلوا بمائه الشفاف فنجحوا في ان يقدموا للعالم رؤياً صوفية وروحية متسامية في أشعارهم .
ولذا فقد قال لنفسه - كما ورد في مقدمته لديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي"  "ارجعي لربك راضية مرضية " , " وحين انتبهت وجدت نفسي درويشاً صوفياً ." هكذا يدخل الشاعر فضاء العشق الصوفي، ومكابدة السفر المضني بين أوغال المجهول، ليقدم لنا في النهاية هذه الحصيلة الغنية بالتأمل والتبصر والحكمة ، والثراء الجمالي والروحي معا ، إلا ان الشاعر ياسين طه حافظ في رحلته إلى مجاهيل الإشراق والسياحة الروحية والتصوف الشرقي لا ينغمس كلياً في الترياق الصوفي العرفاني والغيبوبة ،بل هو يظل مشدوداً إلى الأرض ، إلى أحزانها وكفاحها ومكابدتها الدنيوية اليومية.  انه مثل معظم شعراء الحداثة العربية الذين عانقوا السياحة الصوفية، لكنهم ظلوا دنيويين وحسيين إلى حد كبير. وربما تمثل تجربة الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي مثلا ملموساً على ذلك  في الشعر العراقي.فمنذ  رحلته مع حسن الصباح إلى عوالم نيسابور وانتهاءً بديوانه "بستان عائشة " لم يأسره الترياق الصوفي وظل وفياً لرؤيته الدنيوية والشعرية الملتزمة . كذلك هو الحال مع شعرية آخر العمر عند ياسين طه حافظ التي ظلت تراوح بين لحظتين  متوترتين:  الأرضية والهيولية .
ربما تمثل هذه الدواوين الأربعة ، على اختلافها وتنوع تجاربها، محطة مهمة في حياة الشاعر الابداعية ، ظل فيها يراجع حساباته القديمة ، حسابات الربح والخسارة ، وربما حسابات  الحقل والبيدر أيضاً ، ليعيد التوازن إلى ذاته ، ويتطلع بعينين مفتوحتين على عوالم أليفة وقريبة ولكنها ظلت بالنسبة له مهملة ،  أو منسية ولم تستغرقه كلياً واعني بها ملاذ اللحظة الصوفية بكل تجلياتها وسموها ، حيث يمثل ديوانه الرابع "مخاطبات الدرويش البغدادي" ذروة هذا البحث .
ولكي نتفحص جيداً مسارات هذه التجربة الجديدة وشعريتها يتعين علينا ان نتوقف في كل محطة من محطاتها مبتدئين من ديوانه الصغير "ديوان فاطمة ".
ويمثل "ديوان فاطمة"  للشاعر ياسين طه حافظ الصادر في دمشق عام 2012 تجربة متميزة لها خصوصيتها في تجارب الشاعر الشعرية السابقة ، ذلك أنها مكرسة بالكامل لاستلهام شخصية  "فاطمة" الرمز والقناع والحقيقة ،واتي تذكرنا بشخصية "عائشة" في متن عبد الوهاب البياتي الشعري  وخاصةً في "بستان عائشة".
وفي عتبة استهلالية مهمة يضيء بها الشاعر ياسين طه حافظ دلالة اسم فاطمة فيشير إلى انه من الأسماء المحببة لدى الشعراء وانه اختاره في قصائده منذ عام 1985 :
" واليوم أجد في فاطمة رمزاً يأخذ بيدي في المدائن الضائعة ليوقفني أمام القرار الأخير في البحث عن المعجزة أو المعنى . أما لماذا هذا الاسم ؟ فاعتقد بأنه اسم يجمع بين الجلال والجمال ،فتحتويه القصائد " (4)
ومع ان الشاعر سبق له وان كرس ديواناً كاملاً لامرأة واحدة هو ديوان "قصائد على جدار آشوري" الصادر عام 2012 أيضا والذي يشكل في واقع الأمر قصيدة طويلة مقطعية أو عنقودية تتشكل من مئة حبة أو لوحة أو مقطع ، لكن القارئ يشعر بانه في "قصائد حب على جدار أشوري" بإزاء امرأة حقيقية ، ربما مثل نساء نزار قباني الحسيات ، إما في ديوان "فاطمة" فإن المرأة تتحول إلى رمز روحي وصوفي متحول وحرباوي - تماما مثل رمز عائشة عند البياتي . فهي روح حائمة تمارس الحلول والاستنساخ .
"هل هذه فاطمة , اوفيليا , ليلى التي / غيبها التاريخ أو سافو التي أضاعها الرواة ؟/ ام هذه روح لأولاك جميعهن ، أوهمت كل الذين حولها ."
تظل فاطمة عصية على التجسد ، فهي التي تغيب دوما لتتحول إلى أسطورة  ،كما نجد ذلك في قصيدة "عاشق فاطمة ": "فاطمة  ، فاطمة غابت ولن تعود . " (24)
يبدو لنا الشاعر في هذا الديوان مثل شيخ فانٍ تعب من الحياة ، وتعبت  الحياة منه ، وهو يتجرع مرارات الحياة وقسوتها بصمت و بكبرياء دونكيشوتي.  فتأتي  فاطمة لتبعث الحياة ثانيةً وتحرك نوازع كل ما هو حسي وأرضي :
" هذا القطار ، تمر ساعات وتفتح بابه / هي هكذا مرت حياتي بعد أن أخطأت في تلك المحطة / بعد ان أغلقت بابي كي أضيع وراءه : /حب جديد بعد هذا العمر ؟ ترجع للكلام تعيده / لكنها قالت أحبك . " (7)
ولذا تصبح فاطمة الحسية وفاطمة الرمزية هي طوق النجاة في رحلة العمر الطويلة وربما المعادل الموضوعي الافتراضي لخسارات الشاعر وإخفاقاته العاطفية والحياتية .
في لحظة خاصة سألت الشاعر عن فاطمة فباح لي بالسر ، مع إن الناقد لا يمكن أن يلزم نفسه بمقولات الشاعر وهفواته اللسانية أو ما تسمى بـ "فلتات اللسان" كي لا يقع تحت طائلة "المغالطة القصدية " التي حذر منها الناقدان الأمريكيان ومزات وبيردسلي . اذ قال ان فاطمة امرأة حقيقية من لحم ودم التقاها خلال زيارة ثقافية قام بها إلى إيران ،وأنها كانت تقوم بدور المترجمة للوفد الثقافي وأنها كانت جميلة وقوية الشخصية والحضور . وأنا هنا  لا أفترض، اعتماداً على ذلك ،ان فاطمة امرأة حسية فقط بل أذهب إلى انها أيضا رمز أسطوري متبدل يتجسد في كل النساء عبر التاريخ . فمثلما كان لعائشة بستانها عند البياتي , كذلك نكتشف ان لدى فاطمة "بستانها " الذي تختفي فيه وتذوب : وإذا كففتُ وقلت أرجعُ وجه فاطمة يقول :
 بستاننا خلف التلول / حتى إذا يممت لم أجد التلال / ولا الحقول . (15)

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram