2-3وتنتظم قصائد "ديوان فاطمة " بنية سردية واضحة شبه خطية تتحرك أفقيا من نقطة البداية إلى النهاية مروراً بتجربة محتشدة فيها الكثير من استلهام تراث الثقافة الفارسية برموزها الشعرية الكبيرة : سعدي وحافظ والفردوسي والشاهنامة. ولا يبقى بعيدا صوت الخيام وز
2-3
وتنتظم قصائد "ديوان فاطمة " بنية سردية واضحة شبه خطية تتحرك أفقيا من نقطة البداية إلى النهاية مروراً بتجربة محتشدة فيها الكثير من استلهام تراث الثقافة الفارسية برموزها الشعرية الكبيرة : سعدي وحافظ والفردوسي والشاهنامة.
ولا يبقى بعيدا صوت الخيام وزرادشت والرموز الروحية في مشهد وقم وأصفهان ، بل وتظل صورة ملحمة جلجامش من خلال حكمة سيدوري : سيدة الحانة التي نصحت جلجامش بان يكتفي بالحياة الحسية التي بين يديه ويكف البحث عن عشبة الخلود . ففي قصيدة "نصح فاطمة " :
" يا أيها الراحل هذا عالم لا ينتهي, / وكل ما ترونه ظنون " (32)
هنا دعوة للكف عن الوهم بالخلود , وبالحب :
" لن تصلوا ! / هل تسمعون صيحتي ؟ أقول : / لن تصلوا / لن تصلوا / الارض كوكب يدور! "(33)
ويؤكد الديوان صرخة سيدوري أكثر من مرة وخاصة في قصية الختام "في البحث عن فاطمة ".
" نصيحتي : الحياة غادرت / مكانها واختلف العالم ، عد إلى / خطوتك الأولى / وحاول ان ترى طريقك القديم . " (96)
وهكذا يجد كلكامش ياسين طه حافظ أو قناعه الضمني نفسه مخفقاً وهو يودع أحلام الحب مقتنعاً بنصيحة فاطمة ، على مضض . فهو مجرد رجل فانٍ جاوز السبعين أورثته الحياة محنها وعذاباتها :
" الان شيخ يرتدي أسمال أزمنة مضت / وعصاه ترتعش وهو في / ذاك الطريق القفر يبحث عن وصول . " (15)
وهكذا تتشكل، عبر حركات الديوان وتمفصلاته السردية، ثنائية الشاعر الشيخ والحبيبة الحرباوية، فاطمة، في رحلة جلجامشية من اجل اكتشاف الحقيقة : حقيقة الحب المستحيل ضمن نسق تراتبي رباعي :
(1)الإحساس بالشيخوخة (2) بريق الحب الذي تمنحه فاطمة( 3)ساعات الحلم والوهم والآمل بالإمساك بإكسير الحب (4) الإحساس بالإحباط واستحالة الإمساك بعشبه الحياة.
وهذا النسق الرباعي يتمثل سردياً في مجموعة من الوحدات السردية التي تتشكل على هيئة رحلة يقوم بها الشاعر بصحبة عدد من الضيوف عبر مدن إيران المختلفة بصحبة فاطمة : الحقيقة/ الوهم . / " لكنني أهتز فوق المقعد الخشبي في هذا / القطار الجلف ، أسألها حقيقة قولها / كيما أريح الروح من قلق ، وأسالها / ولا أرجو جوابا ثم أسألها ولا أرجو .. " (7)
وتتواصل تمفصلات الرحلة إلى أصفهان في نسق سردي لا تخطئه العين :
"كان الطريق لأصفهان محيراً / ظل إلى الفردوس يومي / والإشارة قرب روحك تستثير تريثاً. " (13)
ويتواصل المبنى السردي في قصيدة "نصح فاطمة " من خلال راوٍ خارجي هذه المرة يذكرنا بالراوي في المرويات التراثية الكلاسيكية :
" مسافرون فوق تلكم التلال / منحدرون ، حيث سار قبلهم ناس وسار آخرون . " (30)
ويتخذ النسق السردي مظهراً حسياً لبنية مشهد شعري /روائي ، في قصيدة من احوال فاطمة ":
" دفعت باباً مغلقة / فتهاوى خلف الباب ضباب . "(42)
وتتشكل صورة فاطمة حكائياً من خلال بنية "بالاد " شعرية حكائية:
"فاطمة تنفض شراً , تقرأ آيات / مسرعة تركب أول باص . (43)
ويتخذ السرد مظهر بنية درامية حوارية متكاملة كما هو الحال في قصيدة "غياب فاطمة "
"جاءت الي مثل من ينقذني من محنة / أضاءت الغرفة قالت : / " هل مسحت مرة مصباحَها ؟ / أحس غيمةً / تاتي إلى وجهي ، فلا أرى " (54)
ويتحول أحيانا السرد إلى سرد ذاتي من خلال راو يتكلم بضمير المتكلم :
" وصلت الآن عبادان ، صحراء الزمان مضت وهاتيك الرمال . "(72)
ولكن الديوان – القصيدة وأعني " ديوان فاطمة " محتشد فضلا عن ذلك بلحظات تأملية فلسفية في الحياة والحب والحقيقة والموت :
"كم ترددت أخطو , وأوصيت روحي تمضي / ولكن هذا الطريق الذي اخترت ممتلئ بالرفات ". (76)
" ديوان فاطمة" بداية مرحلة تأملية في حياة الشاعر وهو يدخل بكبرياء خريف العمر ليوزع حكمته ووصاياه ونبواءته على الاجيال القادمة وليمثل بوابة لمسيرة خصبة أماطت اللثام عنها دواوينه الاخيرة.
ففي ديوانه "ولكنها. .هي هذي حياتي" يقدم جرداً لمسيرة حياته ،دونما تزويق او تزييف، وكأنه يجلس على كرسي إعتراف يقدم منه اعترافاته وهواجسه ومخاوفه لآخر لا مرئي ،وربما لنفسه قبل كل شيء.
تكاد معظم قصائد هذا الديوان ان تتحول إلى هجاء للعصر والحياة والمجتمع : فكل شيء ينضح بالقذارة والبؤس والزيف . ففي قصيدة "الشرق أوسطي" تقرا هذا الهجاء المرير :
" قذر هذا الشرق الأوسط ، فاسدة للجذر مدينتنا ." (ص 15 )
وتبدو له حياته غامضة وسط هذا الخراب والبؤس الذي يغلق كوى المستقبل بعنف وقسوة: "أي حياة،
أنا أحياها اليوم وأي حياة ستجيء ؟ / هذا الطوق الاسود يملؤه تاريخ ملغوم / أوبئة ، تاريخ من خوف ، جوع ،لا مستقبل . " (ص 15 )
وفي قصيدة "ولكنها هي هذي حياتي " التي يحمل الديوان اسمها يحاول الشاعر ان يعتذر لقارئه عن مسحة الشجن التي تهيمن على شعره :
"أيها الأصدقاء الذين يلوموني / ما أردت القصائد محزونةً / انما هي هذه حياتي وأنا قد تسللت من زمن موحل . " ( ص 41 )
ويبدو له الإنسان في هذه الحياة مثل بدوي يرحل في طريق بلا عودة:
" هو حكم الحياة ننوء به رحّلاً في طريق ، بلا عودة / نترك في الرمل آثارنا . " ( ص 107 )
وتأتي القصيدة الأخيرة في الديوان الموسومة "اعتذار لمن لم اكتب عنهم " بمثابة حوار افتراضي مع الشاعر الأمريكي ( ولت ويتمن ) وتحديداً من خلال التناظر مع قصيدته " أغنية لنفسي " من ديوانه " أوراق العشب " ، وفيها يعتذر عن كل الأشياء التي لم يكتب عنها في حياته ، عكس ( ولت وتمن ) الذي كتب عن كل شيء :
" سلاماً سلاماً ياولت وتمن / فأنا اليوم أكتب بنهجك هي عدوى الشرف / ياصديقي الأكبر والأعظم / استأذنك لأبدأ القصيد الشغوف بالأسماء . " ( ص 125)
ويقيم الشاعر مقارنة بين نفسه وبين الشاعر ( ولت ويتمن ) ويعتذر لأنه لم يكتب عن الكثيرين الذين كان ينبغي عليه ان يكتب عنهم :
" لم أكتب عن الطفل ولد حيا ولا عن أمه ولدته وماتت . / لم اكتب عن فقراء المدن وفقراء القرى . " ( ص127 )
لكن الشاعر يدرك ان لا عذر له في هذا النسيان : ولهذا فهو يؤكد فعل الكتابة في المستقبل في بنية ميتا سردية دالة :
" أما انا فسأُمضي ما تبقى لي من ايام / اكتب عمن لم اكتب عنهم ، من ذكرتهم وعن كثيرين
سواهم أهملهم الله وأهملتهم أنا ! " ( ص 136)
ومع ان بعض قصائد الشاعر تميل إلى النثرية وأحيانا المباشرة غير المبررة فضلاً عن النزعة الذهنية والمنطقية ، كما هو الحال في قصيدة "هل أنت ياسين بن طه ؟ " و "صياح الإوز البري" ، فإن اغلب قصائد الديوان تتشكل من لوحات درامية أو مشاهد يومية حية ، أو سرديات موجعة مبنية بطريقة فنية ذكية . فقصيدة "عن قتيل باب المعظم" تنحو سرديا لبناء شخصية القتيل الذي اغتاله الملثمون في باب المعظم ، وكأنه يكتب "بالاد" شعرية لوركية :
"تحت حشد الغيوم / جثة وطيور تحوم ." (ص 58 )
ويبدو الموت هنا إدانة للقتلة المجهولين وسخطا على الحياة والحضارة :
"أتأمل وجهه يركد فوق التراب / ساكنا في رداءة ما حوله / مستقراً بنصف التفاتٍ ونصف انكسارٍ/ يريني جرح براءته/ وخيوطَ الدم اليابسات / عذاباتِه الصامتة/ وأمامي عيناه مفتوحتان / كل عين محارة . " ( 63 )
وربما تختزل صرخة الشاعر في قصيدة " موت الشاعر " موقف الشاعر الكلي في الديوان :
" يا أيها البشر اسمعوا / إني تعبت من الكذب! / إني تعبت من الكذب! (ص 22)
هكذا يتعرى الشاعر بشجاعة أمام التاريخ والضمير ، وهو يتمزق بين الفعل واللافعل ، بين نعم ولا ، بين الكذب والحقيقة ، لكنه يظل دائما صادقاً مع ذاته ومع الإنسان.