TOP

جريدة المدى > عام > شعرية آخر العمر.. ما قاله ياسين طه حافظ في مخاطباته وسياحاته الصوفية

شعرية آخر العمر.. ما قاله ياسين طه حافظ في مخاطباته وسياحاته الصوفية

نشر في: 28 يونيو, 2016: 12:01 ص

3-3لكن خاتمة المطاف في رحلة خريف العمر ، أو آخره ، كما يبدو قد تقطرت عبر ديوان "الدرويش البغدادي" الذي "يتدروش" فيه الشاعر أو ذاته الثانية ، محتفظا بجذره البغدادي ، ويسوح في المعارج والمراقي الروحية بصحبة الحسن البصري الذي دعاه للإقامة في بيته ليتعلم

3-3

لكن خاتمة المطاف في رحلة خريف العمر ، أو آخره ، كما يبدو قد تقطرت عبر ديوان "الدرويش البغدادي" الذي "يتدروش" فيه الشاعر أو ذاته الثانية ، محتفظا بجذره البغدادي ، ويسوح في المعارج والمراقي الروحية بصحبة الحسن البصري الذي دعاه للإقامة في بيته ليتعلم الزهد وينتظر الرؤيا حيث تتحول هذه الدعوة الى ما يشبه البنية الاطار ومفتاحاً للرحلة:

قال لي الحسن البصري :
" تعال أقم في بيتي ،/ هنا في هذه البلدة بين النخل والبحر . / تعلم الزهد وانتظر الرؤيا . " ص 7
في هذا الديوان يرتدي الشاعر قناع درويش بغدادي ، يتمثل ويهضم كل التراث الروحي والصوفي في الكتب المقدسة والديانات الشرقية ليوحدها في رؤيا كونية إنسانية لا تتعالى على طين الواقع وخرابه ،  ولذا تكتسب هذه الرؤيا مسحة أرضية ودنيوية وحسية ، ربما لتحقق لونا بين ما هو عرفاني وبرهاني أو بين ما هو أثيري وغريني.
 ومع ان الشاعر يعلن في مقدمته عن مراجعته الشخصية لمفهوم الحداثة الشعرية ورغبته في العودة إلى ينابيع الفطرة والتصوف والوجد ، بعد ان جرّب كل أشكال التحديث والتجريب والابتكار في شعر الحداثة ، إلا انه يظل حداثيا في صوره ولغته ورؤياه ، وتظل الحبيبة هي رفيقة رحلته الطويلة .
وعلينا ان نحذر من الاعتقاد ان نزعة الشاعر هي ، هنا  بمثابة ، تجريب آني مؤقت ،لفضاء روحي سبق وان جربه في أكثر من ديوان وبشكل خاص في ديوانه "ما قاله آخر الخطباء" وفي "عبد الله والدرويش" ، فهي تجربة روحية صادقة اقترنت برحلة حياتية طويلة ومضنية في خريف العمر التي كابد فيها كل صنوف الانكسار والإحباط والاغتراب في خضم خراب العالم والحياة والوجود .
وديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" في واقع الأمر ، ليس مجموعة من القصائد المتفرقة ، بل هو قصيدة واحدة من قصائد التفعيلة ، ربما عنقودية ، يشدها خيط سردي خفي ، وحركة لعقرب الساعة الزمني . فالديوان يضم مئة وأربعين مقطعا شعرياً قصيرا ، ربما باستثناء المقطع الأخير الذي يمتلك خصائص القصيدة المتكاملة ، لكنه يلتحم رؤيوياً وعضوياً بمشروع الشاعر في تجربة الديوان / القصيدة والذي سبق للشاعر وان جربه في أكثر من ديوان وبشكل خاص في "الحرب" و "قصائد حب على جدار آشوري" و "ليلة من زجاج" و "النشيد" ،مؤسسا بذلك لمشروع القصيدة الطويلة في الحداثة الشعرية التي يتحاشاها ، لاعتبارات مختلفة ، اغلب شعراء الحداثة العرب ، والتي تتطلب دراسة خاصة للكشف عن مقومات شعريتها.
يغلب على الخطاب الشعري في هذا الديوان / القصيدة نبرة الخطاب ، وهو في الأغلب خطاب قناع الشاعر أو ذاته الثانية ، نحو آخر افتراضي قد يكون الحسن البصري نفسه ، وقد تكون الحبيبة . لكن ضمير المخاطب لا يهيمن كلياً على الضمائر الشعرية بل يحدث لون من "العدول" او "الالتفاف" بالمفهوم البلاغي  نحو ضمائر سردية أخرى مثل ضمير الغيبة ، في جدلية حوارية فاعلة ومولدة  تذكرنا باطروحة ت.  س.  إليوت عن "أصوات الشعر الثلاثة". ففي المقطع التالي خطاب نحو حبيبة افتراضية ، وهو خطاب اعتذاري :
"سيدتي معذرة / لا سلطان لنا في الفوضى ،/ دنيانا سوق/ ولسنا الباعة فيه / ولسنا في هذا السوق شراة " ( ص 86 )
لكن الشاعر سرعان ما "يلتفت" – بالمعنى البلاغي واللساني – نحو ضمير المتكلم :
" ارنو لها أظل أرسل النظرْ / ما أجمل السحر الذي يمشي وما ألذه ." ( ص 87 )
تبدو رحلة الشاعر مخيفة ومحاطة بالمتاهات التي تجعل الشاعر يتهيب ويعيد النظر مراراً في سفره :
" ياسين , يامجنون ، يافرهاد ،/ ألا تخاف أنت / من انخساف القنطرة ؟ " ( ص 19 )
وتظل الحبيبة الافتراضية ، هي البوصلة ، وهي كعبة الشاعر التي تشده بما هو ارضي لكي لايحلق في عالم الأثير . فالشاعر قد اختار بين العرفان والبرهان :
"ياحي ياقيوم/ ياصاحب العرش / اني فتحت الروح للمحبوب . " ( ص 108 )
يشعر الشاعر بان حب الحبيبة قد استولى عليه ومحاه ( ص 21 ) لذا راح يتيه باحثا عنها في البراري :
 " هذا أنا الدرويش ألقي للثرى إزاري / اتبعها ، أضيع في البراري . " ( ص 22 )
وبعد ان اختبر الشاعر كل الأديان والكتب والأنبياء يعلن استجارته النهائية بوجه حبيبته :
" في حيرة أنا / لم اجد التفسير/ ولا ضمنت حجة التفكير / بأي دين سأدين بعدما رأيته
بأيهم من أنبياء الله أستجير / وجه حبيبي منقذٌ / وجه حبيبي أيةٌ تنيرْ . " ( ص 31 )
لكن الشاعر ، في حالة انخطاف دائم وكأنه يسترجع نشيد الانشاد وهو في رحلته في الحياة وهو يحلم بان يعانق الجوهر في حبيبته :
"  أريد أن أحيا / أريد أن اهجسه يقول : / أعانق الجوهر في حبيبتي . " ( ص 151 )
وتندمج رحلة الدرويش البغدادي بسافو ، الشاعرة العاشقة ، ويرتدي قناعها في اخر المطاف تأكيدا لانتصار دنيوية هذه الرحلة الروحية :
"ياخالق هذه الأجساد ، أيا قدوس /  مدَّ ضياءك لي أنقذني من هذه الحيرة / فانا سافو لا اعرف غير الحب / وغير الرقص وغير شفاه حبيبي " ( ص 162 )
 وتظل سافو ، قناع الدرويش البغدادي تبحث عبثاً عن هذا التوحد بين الجوهر والحب الأرضي ، وهي تعود ربما مثلما عاد جلجامش بعد ان استمع إلى نصيحة سيدوري سيدة الحانة ليعانق ما هو ارضي وواقعي . وهكذا تواصل سافو عملية البحث عن المطلق والجمال بحثا عن الكون وفردوسه المخفي ، وهي أيضا تتويج لرحلة الشاعر أو درويشه البغدادي :
"ياسافو في العشبة فردوس مخفي / في الصخرة أبهةٌ وجمالٌ قدسيٌّ / والقبّرة المنطلقة / تحمل روح الكون وسرّه / كوني هادئة ياسافو ،كوني غائبة في حبك / ، ظلي في الكون الشاسع مثل ابنته / أو زهرته / أو موجته الحرة" ( ص 165 )
وهنا تنتهي هذه الرحلة الروحية العميقة للدرويش البغدادي ، عبر محطات المكابدة والعشق والانخطاف بحثاً عن وحدة الوجود. وكنت اتوقع ان يعود  الشاعر  ثانية إلى القصيدة الإطارية – اذا جاز التعبير – التي دعاه فيها الحسن البصري إلى الإقامة في بيته للانطلاق في رحلة الكشف هذه لتأخذ القصيدة شكل بنية شعرية دائرية لرحلة مكتملة وغنية بالدلالات والإيحاءات السيميائية والجمالية والروحية التي قطرتها تجربة  العمر التي مرّ بها الشاعر ، وكابدها في أكثر من ديوان ، كان آخرها "ولكنها هي هذه حياتي" ، وحاليا في رحلة الدرويش البغدادي هذه :
" انتهت قصتي أو هي في لحظة تنتهي ، / موجع ان أكون احترقت وأنا ما ارتشفت  /من ذلك السلسبيل / هي هذي حياتي التي نحن نحيا ، وهذا السبيل / لا بديل . "
هذه الضربة أعدها تضيء ختام رحلة الشاعر الروحية متدروشاً في ختام رحلة حياته الأرضية  في الشعر والحياة والحب .
ديوان "مخاطبات الدرويش البغدادي" للشاعر ياسين طه حافظ هو ثمرة استقصاء روحي ومعرفي صب فيه  الشاعر،عبر مشروعية التناص الكثير من حكم الكون وأقوال الشعراء والحكماء , كل شرائع الأرض كالإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والزرداشتية ، ربما ليحرر الشاعر نفسه من الإحساس بخطيئة انه ، بإغراء الحداثة ، قد ابتعد عن المنابع الأولى للجمال والمعرفة في الموروث الشرقي الروحي وليؤكد لنفسه ولنا وللشعر :"لقد وفيت بديني بعد أن قلت لنفسي بعد تلك الرحلة ، ارجعي لربك راضية مرضية ." (ص 11 ، المقدمة ).
ديوان ياسن طه حافظ ، تجربة فريدة في شعرنا الحديث ، وإضافة مهمة يقدمها الشاعر ضمن تجارب أخريات العمر ، لتؤكد خصب التجربة الشعرية وتنوعها وتواصلها لشاعرنا.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram