(1)قبل أكثـر من ثلاثة عقود التقيت الفنان المبدع والمخرج السينمائي المجدد سعد سلمان ولم أفترق عنه فنياً قط ، فقد واكبت إنجازه الفني مند بداياته في المنفى إلى يوم الناس هذا وشاركت بتواضع في بعض منها بطريقة أو بأخرى وكانت لدي قناعة راسخة أنه
(1)
قبل أكثـر من ثلاثة عقود التقيت الفنان المبدع والمخرج السينمائي المجدد سعد سلمان ولم أفترق عنه فنياً قط ، فقد واكبت إنجازه الفني مند بداياته في المنفى إلى يوم الناس هذا وشاركت بتواضع في بعض منها بطريقة أو بأخرى وكانت لدي قناعة راسخة أنه سيكون ممن سيقومون بإنقاذ السينما العراقية التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة وتغرق في غيبوبة لا أمل في الخروج منها.
فسعد سلمان ليس مجرد مخرج سينمائي محترف فحسب بل هو مثقف وفنان متعدد المواهب وسياسي مناهض للديكتاتورية ، بيد أنه وقبل كل شيء فنان موهوب وجريء وذو شجاعة فائقة وجرأة لا محدودة يقول بصوت عال ما يقوله الآخرون أو يفكرون به بصوت منخفض . ومن هنا تأتي أهمية مشاهدة إبداعاته الفلمية المتعددة الأشكال والأساليب والتي تشكل كل تجربة منها مدرسة خاصة بها لا يمكن تقليدها ففي كل تجربة فلمية توجد لغة سينمائية متفردة ومتميزة تمتلك نحوها الخاص وقواعدها الخاصة وقيمها الجمالية الخاصة ورسالتها الخاصة.وفيلم "دردمات" لايشذ عن هذه القاعدة.إن هذا العمل الإبداعي يتطلب قراءة عميقة ومتأنية لأنه يتحدث عن موضوع شديد التعقيد وهو العراق من منظور فنان مرهف عاش كل تفاصيله وتحولاته وعكس نبض الشارع فيه وصاغ واقعه العبثي والسوريالي وهو في كل لقطة من فيلمه الجميل يوجه رسالة ويستبطن معاني دفينة وقراءات متعددة للمفردة التي يعرضها وتكمن موهبته في أنه يوظف كل شيء يقع تحت يديه لصالح موضوعه وصيغته الجمالية النهائية من خلال التعامل مع كافة الوسائل التعبيرية السمعية البصرية لاسيما الاستخدام الخلاق للصوت والمؤثرات الصوتية وكذلك يحول فقر الإمكانات المادية والتقنية إلى سلاح إيجابي وورقة تفوق حيث يجعله ذلك القحط في الإمكانيات يبتكر حلولا خلاقة وذكية ويبدع نتائج مبهرة قد لايصل إليها لو توفرت له التقنيات الضرورية والإمكانات المادية والميزانية العالية لاسيما في مجال الإنارة والتصوير الثابت والمتحرك وزوايا وأماكن التصوير والارتحال الدائم بين ماهو داخل وخارج الكادر والجمع بين المحترف كشخصية الأستاذ زهيرالتي أداها بنفسه وغير المحترف أي الجلاد العريف جبار التي أداها محمد المعموري ، علاوة على طاقمه الفني المكثف من غير المتخصصين بالفن السينمائي إخراجاً وتصويرا وتمثيلاً وهذه مخاطرة لايقدم عليها أكبر المخرجين المخضرمين الذين لايصورون بدون توفر الحد الأقصى من الضمانات الأمنية والفنية والخبرات والخبراء والأدوات وتوفر كافة مراحل الإنتاج المتعارف عليها كالسيناريو والديكوباج وفريق التصوير المحترف والميزانية العالية والمعدات التقنية المتطورة والمؤثرات الفنية والمختبرات وغير ذلك والتي لم يتوفر منها ولا حتى الحد الأدنى للفنان سعد سلمان لكي يقدم لنا فيلمه الجميل هذا. لا أنوي الحديث عن موضوع الفيلم ومضمونه وشخصياته وأبعادها السياسية والاجتماعية ، لكني سأتناول باختصار اللغة الإخراجية لسعد سلمان التي تتغير وتتجدد في كل فيلم من أفلامه لكنه في هذا الفيلم بلغ أوجه وتألق بعيداً في تعامله مع قواعد اللغة السينمائية الشخصية وكان الزمكان العراقي هو ساحته وملهمه. إذا أردت أن تعرف العراق اليوم فاذهب وشاهد "دردمات" سعد سلمان فهو ليس مخبرا صحفيا أو مراسلا تلفزيونيا يغطي الأحداث والوقائع الإخبارية وليس مخرج أفلام وثائقية مملة تلتقط الصورة المتوفرة وتعلق عليها بلغة متخشبة دعائية تخدم هذا الطرف أو ذاك ، إنه فنان يغوص في الواقع ويستنطق الذاكرة والتاريخ ويسيطر على الهواجس والمشاعر المتصارعة ويقوم بتشريح العراق بكامرته على غرار الجراح الذي يشرح جثة مريضه بمبضعه ليكتشف سر الوفاة وفي لحظات الوحدة يتأمل المكان ويسمع البكاء يشدو مغنيا على ضفاف دجلة : لم يعد لدي دار ولا وطن. شخصيات الفيلم هم أبناء العراق الذين يغلفهم الحزن والخوف واليأس والبحث عن مخرج ومن بينهم الجلاد والضحية ، وليس غريبا أن يكون الجلاد عسكريا والضحية مثقفا فهذا هو ديدن العراق فهل هناك من هو أجدر من المثقف ليشخص داء الوطن ويكتب له الدواء؟
الكاميرا تتحرك حتى عندما تكون اللقطة ثابتة فمحتوى اللقطة متحرك وكل شيء يتحرك وفق إيقاع مدروس والأحداث والشخصيات تسير وفق مسار محدد لها وفي سياق التنامي الدرامي لبطليه الباحثين عن أفق لمرحلة مابعد الخروج من عالمهما القابع تحت الأرض. الجلاد ينجح والضحية يفشل ثم يلتقيان ضمن المعادلة السابقة ذاتها، الجلاد يقود بعد أن يتكيف والضحية يقاد بعد أن ييأس ويخفق في العثور على هويته وطريقه. عندما تحدث المخرج والناقد الفرنسي استروك عن نظرية الكاميرا – قلم قبل نحو نصف قرن لم أتصور أنني سأعثر في فيلم سعد سلمان على التطبيق العملي لتلك النظرية حيث كانت الكاميرا بيد المخرج كالقلم بيد الروائي وهو يراقب ويدون ويعرض ما يراه عبر منشور خاص يدعى رؤية سعد سلمان السينمائية للعراق .
يتمثل البعد الملحمي في هذا الفيلم بحقيقة أن كل من يشاهده من العراقيين سيجد نفسه فيه بشكل أو بآخر وسيشعر أن المخرج يسكن في أعماقه ويستنشق أنفاسه ويحمل صوته ويعكسه صورة وصوتاً سينمائيين لينطق بالنيابة عنه: أين العراق ، أين الحكومة ، أين الدولة، أين المؤسسات، أين القانون، أين الأمن، أو بكلمة واحدة : أين الحياة ؟
إنه فيلم واقعي إلى درجة الميتافيزيقيا وسوريالي إلى حد العبثية ولكن ماذا نفعل إذا كان هذا هو العراق كما يقول المخرج نفسه؟
إن سعد سلمان يكتشف نفسه في كل لقطة يصورها ويندهش بها وهو لايخاف التجريب ويحول العقبات إلى حلول مبدعة ويصل دائماً إلى نتائج مبتكرة تتحول بدورها إلى دروس وعبر في مجال الإخراج السينمائي خاصة للشباب المبتدئ في هذا الفن.
إن رأسمال سعد سلمان وهو يصنع فنه ويصور أفلامه هو حريته المطلقة وعدم خضوعه لأية ضغوط سياسية أو تأثيرات خارجية أو مدارس وتجارب سابقة لغيره من المخرجين بل يعمل خارج الأطر التقليدية والمدرسية التي تعلمناها في المعاهد الفنية المتخصصة وعلى أيدي اساتذة مشهود لهم في هذا الميدان وهذا يحسب له لا عليه. نقطة ضعفه الوحيدة تكمن في عملية إدارة الممثل في بعض المشاهد التي بدت وكأنها عفوية غير خاضعة لأي توجيه ولا أدري إن كان ذلك مقصوداً من جانب المخرج لكنها تميزت ببعض الضعف إلى جنب لقطات زائدة كان يمكن الاستغناء عنها دون أن يؤثر ذلك في سياق الحدث أو إيقاع الفيلم وتناميه درامياً.
البناء الفيلمي:
كل عرض فيلمي أو سمعي بصري يلجأ للصورة كوحدة بناء ومفردة لغوية، وكل صورة يحتويها هذا العرض تستدعي لبنائها أن يكون هناك التزام واختيار مسبق لعدد غير محدود من المعاني والرموز والإمكانيات التأويلية التي توصلها الصورة للمتلقي بغية إعطاء مفهوم عن العالم المصّور، وفحوى ما للخطاب الصوري . ولهذا المفهوم علاقة جدلية لاتنفصل عن الزمان والمكان. وبالتالي يعمد الفنان المبدع المتعامل مع الصورة إلى إدهاشنا وإفتاننا إلى درجة السحر ليس فقط بجمال الصورة وتكوينها الفني وإتقانها فحسب، بل وكذلك بتحميل محتواها بشحنات نفسية ومعنوية وعاطفية كثيفة تخدم تفسير المتلقي المشاهد للصورة والحال توجد أمام الصانع المبدع والفنان الموهوب طريقتان للقيام بذلك:
فإما التشديد على الواقع الذي يخترقه بعدسته الراصدة ويقدمه من منظاره أو زاويته الخاصة والشخصية على أنه واقع يمتد بلا حدود في تشعبات الزمكان المعاش لكنه، أي المبدع، ينتقي ويقتطع منه عيّنات مختارة بعناية بغية التشديد على المعاني التي ستنبثق حتماً للمتلقي من جرّاء هذا الاختيار القصدي للمكان والزمان الفعليين والسينمائيين.