كانت أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن الــ (54) لشهر حزيران مكرّسة للشاعر البارز عبد الكريم كاصد. وبعنوان "حقائب الشاعر عبد الكريم كاصد"، حيث تم تقديمها من قبل الفنان التشكيلي المبدع والصحفي يوسف الناصر. ورغم شهر رمضان ووجود فعاليات عراقية أخرى ف
كانت أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن الــ (54) لشهر حزيران مكرّسة للشاعر البارز عبد الكريم كاصد. وبعنوان "حقائب الشاعر عبد الكريم كاصد"، حيث تم تقديمها من قبل الفنان التشكيلي المبدع والصحفي يوسف الناصر. ورغم شهر رمضان ووجود فعاليات عراقية أخرى في نفس اليوم، فقد اكتمل حضور زبائن المقهى ورواده وزاره ضيوف جدد.
بدأ الفنان يوسف الناصر حديثة في الترحيب بالحضور والتنويه بدور المقهى كفضاء مفتوح لتلقي المعرفة وأجناس الإبداع المختلفة، وأشار الى صعوبة تتبع ماقام به الشاعر المحتفى به من نتاجات ومجهودات في مجالات عدة، كما نوه الى ان امسية واحدة غير كافية لمثل هذه المهمة وصعوبتها تكمن في التنوع الذي اتسم به نتاج الشاعر عبد الكريم كاصد.
واعترف الفنان يوسف بثقل المهمة بالنسبة له شخصياً، لأنه يخشى ان يبتعد عن موضوعية الأمسية بسبب حميمية العلاقة بين الشاعر وبينه. وهذا ما قد يعقد ما يريد قوله وتبيانه في هذه العجالة.
بدأت الأمسية بفيلم عن الشاعر وهو يجوب اهوار الجنوب العراقي بقارب خشبي تقليدي مع مجوعة من الأصدقاء وبمعية شقيقه د. سلمان كاصد الأستاذ الجامعي والناقد الأدبي المعروف.. تحدث الشاعر عبد الكريم عن براءة البيئة الريفية ونظافتها قياساً لبيئة المدينة الملوثة وتمنى لو تستثمر هذه البيئة لأغراض السياحة وان يجري الاهتمام بناس الأهوار الأصليين وتوفير الحياة الكريمة لهم.
بعدها قرأ الشاعر عدة قصائد منها قصيدة (الغرف) وهي من النصوص الطويلة نسبياً، إليكم هذا المقطع:
" غرفٌ للمياهْ
غرفٌ للمنازل تهبطُ عاريةً
غرفٌ للأسرّة تصهلُ مربوطةً في الغرف
غرفٌ ترتجفْ
غرفٌ للمجاذيب يبكون فوق القوارب مرسومةً في الجدار
غرفٌ للصغار
غرفٌ للجنود المصابين واليطقات
غرفٌ للمساجين والأمهات
غرفٌ للمواخير مفتوحةً للدخول
غرفٌ للعصافير تسكنُ أعشاشها في السقوفْ
غرفٌ للوقوفْ
غرفٌ للهياكل مشدودةً للمراوحْ
غرفٌ للمذابحْ
غرفٌ للعويل
غرفٌ للمهاجر يُسندُ أحزانَهُ لرصيف ".
والمعروف ان الشاعر عبد الكريم كاصد، يهتم كثيراً بالتفاصيل الصغيرة والعادية التي لا يلتفت لها الناس العاديون، لكنها تحمل دلالات مرمّزة وإشارات لحياة وسلوك وقيم. ومما يميز الشاعر عبد الكريم كذلك، تلك المسحة الواضحة من السخرية في العديد من قصائده المعروفة، وهي قصائد مليئة بالأسئلة أيضاً.
بعدها عرض مقطع من لقاء تلفزيوني من برنامج (بقعة ضوء) خاص بالشاعر، اجرته معه (قناة البصرة الفضائية)الحديثة النشأة، وهو من تقديم الشاعر د. ماهر الكتيباني، تطرق فيه الى حكاية هروبه بمعية الشاعر الراحل مهدي محمد علي، وهم في داخل قعر خزّان حديدي، لأحدى ناقلات المواد الخام الى الكويت، والتي كادت ان تقضي عليهما مع بقية الهاربين من جحيم الدكتاتورية في العراق آنذاك.
وتلت ذلك قراءة لقصيدة (رحيل مسيو كومان) وهو زميل له في التدريس عندما كان في الجزائر وكانا يتقاسمان العيش في منزل واحد وتربطهما اواصر الغربة والثقافة والروح الإنسانية الملتاعة.
ثم جاء دور الموسيقى حيث عزفت قطعة موسيقية لعازف نيوزلندي مستوحاة من قصيدة الشاعر عبد الكريم كاصد (حجر) التي أعجب بها المفكر الجمالي والشاعر والفنان البريطاني الأصل جون بيرجر وأثنى عليها -:
حجر
" سأمسكُ في يدي حجرين
من ماضٍ ومن مستقبلٍ ناءٍ
وأركضُ..
حين يلمسني الهواءُ أطيرُ
أدعو الريح أن تأتي إليّ
فلا أرى أثرا
سأجلسُ كاليتيم على الطريق
وأندبُ الحجرا".
وقد تحدث عن القطعة الموسيقية الفنان عمور جمال حيدر، ابن الشاعر والكاتب والمترجم جمال حيدر، حيث شرح مقام المقطوعة وجنسها الذي قال عنه انه ينتمي الى جنس الجاز الفرنسي. وبعد ذلك قدم الفنان وعازف السكسفون عمّار علو تحليلاً لمقام الحجاز الذي أاعْتُمِدَ في هذه القطعة وعزف نماذج موسيقية لها علاقة بذلك.
لقد تنوعت الأمسية وتميزت بغناها المختلف الأجناس الإبداعية، فتليت رسالة الفنان المبدع طالب غالي الموجهة للشاعر عبد الكريم، تحدث فيها عن علاقتهما الممتدة الى سنوات بعيدة، كما نوه لتلحينه قصيدة (نشوى) وزهيري لشاعرنا،إضافةً الى أوبريت الخبز الذي كان من المفروض تقديمه في تلك الأيام والتي لحن فيها قصيدة الخبر للشاعر عبد الكريم كاصد كجزء من هذا العمل الدرامي والأوبريت الهادف. بعدها ذلك جاء دور المطربة ساهرة سعيد، التي غنت قصيدة (شجن) من تلحينها وبصوتٍ معبر، فأثارت مشاعر الحضور الذي صفق لها طويلاً رغم قصر القصيدة للحنها العذب وأدائها الجميل،اللذين دفعا الحضور لأن يطلبوا المزيد، لكن برنامج الأمسية لم يسمح بذلك، مع الأسف. ثم جاء دور الفنان المبدع والشاعر الرقيق فلاح هاشم. حيث كتب قصيدته المهداة للشاعر عبد الكريم على شكل أسئلة محرقة ومتشائمة:
أسئلة الى عبد الكريم كاصد
" عندما كنت في قعر الليل يوماً مزهرية
هل قرأت الكف
كي تعرف للرحلةِ أفقاً، حقل وردٍ، نجم قطبٍ، خط عودٍ
لبلادٍ خلعت عنك الهوية؟
هل تنفست مع الصحراء
أسباباً ستكفي لثلاثين سنة
سنة بعد سنة
لتكفّ العين عن احبابها، عن بساتين
استباحتها حماقات الكلاب؟
عن تلاميذك شاخوا، عن صداقات توارت في الغياب؟
هل تخايلت ولو مرةً من ثقب كفٍ
قبح هذا النسل في ليل الخراب؟ ".
يمكن اعتبار تقديم امسية الشاعر عبد الكريم كاصد في المقهى الثقافي العراقي في لندن، طفرة في طريقة التقديم وخطوة مهمة في تنوع فقرات الأماسي القادمة وهي تحسب لصالح الفنان المبدع والمخرج السينمائي علي رفيق.
لقد قرأ الشاعر عبد الكريم كاصد 12 قصيدة من قصائده الجميلة والدالّة، وهي على التوالي:
الغرف، الحقائب، رحيل مسيو كومان، شيء عن جلجامش، التي تتوزع على ثلاثة مقاطع هي: محنة جلجامش – قدر – سلالة.ثم قصيدة " أسد بابل" المؤثرة، البرج، عراق، شجن، الخبز، زهيري"شجن"، حجر، أغنية الى الفتيان الموتى، وهي مهداة الى ضحايا مجزرة سبايكر المأساوية.
ولا نستطيع في هذه العجالة، كما ذكر مقدم الأمسية الفنان يوسف الناصر ان نلم بكل ما قدمه الشاعر عبد الكريم كاصد لعالم الأدب، من أعمال شعرية وترجمات وكتب نقدية ودراسات تجاوزت الـ 40 كتابا مطبوعا. ولا تزال بعض كتاباته تنتظر فرصتها للنشر.
مقاطع من قصائد الأمسية:
1- محنة جلجامش
" بعد أن عاد جلجامش من رحلته:
لم يجدْ سورَ أوروك
(أين اختفى؟)
لم يجد النهر
(وقد كان بحراً)
ولا البيتَ
(بيتَهُ)
حتى ولا المعبدَ القديم
تذكّر الأفعى
فأنسلّ
ومنذ ذلك العهد
وجلجامش لم يره أحدٌ
جلجامش
أيها الجدّ..!
لا أحد ينتظرك هنا
لا أحدْ "
أسد بابل
" على بعد أمتارٍ من النهر
يجلسُ أسدُ بابل
لا مصاطبَ تحيط به ولا أطفال
لا جنائنَ ولا أبراج
وحين يمرّ به الناس
ولا يلتفتون
يهزّ رأسَهُ أسفاً
مردّداً جملةً واحدةً
لا يسمعها أحدٌ
وإن سمعها لا يعيرها انتباهاً:
"أنا أسدُ بابل
أنا أسدُ بابل"
عراق
" حين أقول:
"عراقٌ"
هل أبدأ من زاخو؟
أربيل؟
ترى أم أنحرفُ إلى الغرب قليلاً؟
وأقول: الأنبار؟
وقد أبدأ من بغدادَ؟
(الممنوعةِ من الصرف)
وأهبطُ حتى الفاو
أقولُ لنفسي:
"ما فاتكِ يا نفسي فاتَ"
وأستنشقُ ريحَ شمالٍ
أستنشق ريحَ جنوبٍ
ما الفرق؟
وأشكرُ ربّي:
ربّاه
عراقَكَ ربّاهْ!
منْ قال لنا
إنّا لسنا نطلبُ عفوك،
أو إنّ جنودكَ
ليسوا بجنود اللهْ!"










