| القسم الثاني |- 3-في كتابه (في أفق الأدب) تتظافر أشياء كثيرة: ثقافة المؤلف ،خبرته النوعية في قراءة المقالة واستكناه أبعادها، النزعة التأمليّة في الحياة، الأفق الإنساني المنحاز لقيم الخير والحقّ والجمال ،الدأب في تلمّس النماذج العل
| القسم الثاني |
- 3-
في كتابه (في أفق الأدب) تتظافر أشياء كثيرة: ثقافة المؤلف ،خبرته النوعية في قراءة المقالة واستكناه أبعادها، النزعة التأمليّة في الحياة، الأفق الإنساني المنحاز لقيم الخير والحقّ والجمال ،الدأب في تلمّس النماذج العليا في المواقف والقيم والشخصيات.
مقالاته في هذا الكتاب رحبة المضمون، متنوعة الموضوعات ،برحابة التجارب البشرية التي تضج بها هذه المعمورة، تستوعب المهمّشين والمنسيين والمضطهدين ،وتؤشر مواضع الخلل والانحراف في الوسط الثقافي والأكاديميّ ،وتؤدّي دورها في الكشف عن المستور وغير المرئي من الحالات والمشكلات ،مّما هو خفيّ إلاّ عن عين يقظة ،ووعي يستبطن الظواهر محللاً ومعللاً وموجّهاً ومؤوّلاً .
تتسيّد (مقالة الشخصية )هذا الكتاب وهي ترسم صوراً قلميّة وسيريّة مركزة ودقيقة ،لذوات ثقافيّة وأكاديميّة مختارة بعناية - عراقية في الأغلب الأعم ،وتلك فضيلة أخرى للكتاب ،فما أكثر النسيان الذي طال الأعلام العراقيين - ،تتوافر هذه الشخصيات عنده على سمات (النموذج) في الخصوصية والتميّز ،ولكنها تعاني القهر والضيم والإحباط ،وعند هذه النقطة سيمسك المؤلف بتلابيب تحليل الخيوط التاريخية والنفسيّة والاجتماعيّة ،وبكل ما من شأنه كشف (العقدة ) أو (الأزمة ) التي تواجه هذه الشخصية المدروسة .
تبدأ هذه المقالات عادة باستجلاء القسمات الخارجية للشخصية ،لكي ينفذ منها إلى إضاءة طبقاتها الداخلية ،ومنها إلى انعكاسات الواقع من حولها ،وهكذا بدأ مقالته عن (حياة شرارة )– مثلاً- :"رشيقة ،قصيرة الشعر، صارمة الملامح ،كئيبة المحيا ،تغشاها سحابة حزن لا تريد ان تفارقها ،ويثقلها أسى ،وهي الى ذلك تنبئ خطاها عن ثقة وثيقة بالنفس .... هي غير الأخريات في كل شيء ،وهي غير الآخرين أيضا ،حتى كأن ليس بينها وبينهم سبب ،وقلما كان بينها وبين أحد كلام ،كانت كأنها تفرّ من شيء ما الى الكتب تغرق نفسها فيها. كنا في أواخر السبعينات ،وكان شيء من الرماد يتسرب في نسيج الحياة ويفقدها مذاقها " (ص76-77).
ولأنّه بصدد رسم صورة سيريّة للشخصية ،فإنه يخصص مساحة ما من المقالة للنشأة الأسرية التي أثرت في تكوينها ،كقوله عن (ابراهيم الوائلي ) : "نشأ في قرية من قرى البصرة المتناثرة على ضفاف شط العرب ،ودرج بين الحقول شأنه شأن لداته ،وزاول الفلاحة ،وأحبّ الأرض والماء ،وامتزج بعناصر الحياة الأولى ،متعرّفاً الخير والشرّوما يدعو إليهما ،وكان ريف العراق يومئذ مباءة فقر وضنى ... وكانت أسرته شطر منها يفلح الأرض ،ويبذر الحبّ ويرتقب رزقاً شحيحاً ،وشطر يطلب العلم الديني وما يتصل به في النجف . نفض يديه من الماء والطين ،واتجه نحو النجف سالكاً نفسه في حلقات الدرس ،يدرس اللغة بنحوها وصرفها وبلاغتها ،لكي ينتقل منها الى دراسة الفقه" (ص28-29). وليست النشأة في الظروف المادية وما إليها ،ولكنه يعنى بتسليط الضوء على الجوانب القيمية والأخلاقية المؤثرة في بلورة تميزّها ،على نحو ما أفصح عنه في مقالته عن (عدنان العوّادي) :"حبّ الحقيقة وتطلّبها سجية أصيلة فيه تجري مع الدم في مجاريه ،وقد أتى بها من بيت أبيه ..... ألهمه بيته حبّ الحقيقة فصارطبعاً فيه ،يأتيه طواعية من دون أية مجاهدة ،وينبثق منه وينسجم معه حبّ الخير ،يصنعه ولا يرجو جوازيه ،ويلقى به القريب والبعيد،ويحبّ الناس غير زاهد بمن رغب فيه ،ويألم شديد الألم إذ يصيب إنساناً أذى ،ويألم إذ يتردّى امرؤ في مهوى دجل أو نفاق "(ص 91).
ذاكرة مقالاته يقظة لاتغفل المنسيين ،مّمن طواهم الزمن مصادفة أو عمداً ،ولعل فيهم من تجهله الأجيال الجديدة جهلاً تاماً ،فيفتح صفحات كتابه ليجدوا أماكنهم اللائقة بهم ، ويزيح شيئاً من ركام الجحود أو الغفلة – في أحسن تقدير - ،وقد يؤاخذ ويعاتب إن وجد في الحالة خللاً أو تقصيراً من وجه من الوجوه ،يقول عن أستاذه (عبد الباقي الشواي) :"قال صاحبي: أيضيره أن لم يكتب ،ولم يؤلف ،ولم يترقّ ،وهو ذو العلم الناصع الساطع ،وذو المنحى الرائع في تفهّم الأدب القديم وإفهامه .....قلتُ :لو كان كتب والّف لامتدّ علمه بين الناس ،ولانتفع به من لم يره " (ص75). اختيار الشخصية محور المقالة عنده ليس بالأمر الهيّن العابر ،بل هو ثمرة معرفة سابقة ،تتيح له دراستها عن كثب ،وإدراك ما تنطوي عليه من معالم تميّز ،أو جوانب ضعف ،أو ملامح إشكالية ،مردّها في الغالب الصراع بين الأضداد في مجتمعنا :بين قيم الرفعة والسموّ ،والانحطاط والتردّي ،على نحو ما شخّص في مقالاته عن (علي جواد الطاهر )و(صلاح خالص ) و(عبد الإله أحمد) و (عبد الأمير الورد ) ...... وآخرين. وتمنح مقالاته مساحة ملائمة للمقاربات النقديّة في دراسة نتاج الشخصية المختارة شعراً ونثراً وتأليفاً ،فتغادر لغتها الأدبية إلى لغة النقد حيث المصطلح والتحليل والأحكام النقدية المعللة والمردفة بالاختيارات للشواهد والنصوص الدالة على الظواهر ،فتتواشج داخل مقالاته الضفتان حينئذ :السيرة الحياتية والسيرة العلمية والأدبية للشخصية المقصودة ،ومقالاته عن (رشدي العامل ) و(القاضي الجرجاني الشاعر )و (لويس عوض) أمثلة ممتازة على هذا المنحى .
-------------
وبعدُ ........ فإنّ خبرة سعيد عدنان العميقة بتاريخ المقالة الإبداعية ،وشعابها وتحولاتها الأسلوبية بين الماضي والحاضر،وحيوية مضامينها ،وحاجة الإنسان الوجدانية المستمرة لدفء الصوت الذاتيّ ، لتفتح نافذة من الأمل على استمرارها وتوهّجها ،بالرغم من بعض الأصوات النقدية المنذرة بموتها ،فهو يؤمن أنْ " ليس من طبيعة المقالة الأدبية أن تضمحل وأن تختفي ،لأنّ الحاجة الجمالية إليها قائمة ،ولعل غدها خير من يومها "(أدب المقالة :ص 44).