1-3
سلفاً وفي الطائرة، بدت الرحلة مختلفة عن كل الرحلات السابقة. عدد المقاعد الخالية والتوتر الذي يمكن ملاحظته على وجوه المسافرين، كل ذلك يشير إلى أن قرار السفر إلى بروكسل، لم يكن بالأمر السهل، وأن المرء أسلم نفسه إلى قدر مجهول. وواحد مثلي يعيش ذلك، لابد له وأن يتذكر رحلاته إلى بغداد، فحتى وقت قريب كان ما يجمع المدينتين حرف واحد. باء. بروكسل/بغداد. الآن يجمعهما ما هو أثقل وأكثر خطورة من مجرد حرف ألف با، باء ثالث كما هو في اللغة اللاتينية: بومبة/قنبلة!
كل شيء ما عاد كما كان، ذلك ما يفكر به المسافر، وهي مسألة وقت، وستتأكد له شكوكه، مستقبلوه الذين اعتادوا الوقوف في صالة المطار الكبيرة كما جرت عليه العادة حتى قبل شهرين، عليهم الآن أن ينتظروا عند مدخل مكان وقوف السيارات، من هناك على الزائر أن يقطع مسافة طويلة حتى يصل محطة القطار. ولأن كل تغير، يظن الزائر، أن كل ما هو ليس موجوداً في بلاده، ما لم يعتَده من قبل، هو أمر جديد، له علاقة بتفجيرات المطار. فمن يقطع تذكرة للقطار من مطار بروكسل، من غير المهم إلى أين، سيواجهه السؤال العبثي على شاشة ماكنة شراء التذاكر، "هل توافق على الدفع الاضافي للمبلغ لشركة ديابولو (الشيطان)؟" عبثي، لأن المبلغ هذا خمسة يورو وثلاثون سنتاً، هو مبلغ اجباري، فبدونه لا يمكن صعود القطار الذي ثمن تذكرته الأصلية للوصول إلى المحطة سنترال مثلاً ثلاثة يورو وثلاثون سنتاً فقط، وعندما يسأل الزائر المرشد الوقف في المحطة، إذا كان هذا المبلغ قد قُرر أخذه بعد أحداث بروكسل، سيأتيه الجواب، كلا، شركة ديابلو (الشيطان) هي التي بنت النفق الذي يمر به القطار، وهذا المبلغ هو أجر (ماوت) للشركة: مدى الحياة!
إنها بروكسل. وإذا كان دفع الماوت روتيناً عمره ثماني سنوات، فإن منظر رجال الجيش المنتشرين باسلحتهم الرشاشة في المطار وعند مداخل المحطات، هو أمر جديد، الانتشار الكثيف أيضاً للسيارات العسكرية في الشوارع والطرقات، يمنح صورة جديدة تماماً لمدينة هي عاصمة أوروبا في الحقيقة: إنها مدينة تعيش حالة حرب، خاصة إذا ما عرفنا، أن السيارات هذه هي شاحنات عسكرية كانت تعود يوماً إلى قوات (كوفور)، تلك القوات التي كانت مهمتها حفظ السلام في الكوسوفو وبقية المدن والاقاليم المتصارع عليها في يوغسلافيا السابقة، وحتى إذا بذل المعنيون جهدهم لطمس الذكرى تلك، إلا أن الظلال التي تركتها حروف اسم المنظمة المنقوش على باب كل سيارة والذي كما يبدو ظل مصراً يقاوم المسح، لابد وأن يذكرنا بأيام الحرب في يوغسلافيا، بحرب الكوسوفو، بحصار ساراييفو وتقسيم موستار.
بغداد. بريشتينا عاصمة الكوسوفو. مرة أخرى حرف الباء. هل تسير بروكسل على خطى المدن الجريحة تلك؟ الأولى ما زالت تنزف دماً حتى اليوم، والأخيرة ومعها مدن يوغسلافيا السابقة تحاول منذ سنوات تضميد جراحها. وواحد مثلي، يعرف هذه المدن، الأولى عاش ودرس فيها، إذا لم تصاحبه حتى اليوم في كل خطوة يخطوها، والأخريات زارها وتجول في أسواقها وأزقتها، وتحدث مع ناسها، كما له أصدقاء هناك، واحد مثلي تجول في هذه المدن في لحظات السلم وفي لحظات الخطر، لابد وأن ترتسم امامه صورة المدن هذه وهو يقطع بروكسل شمالاً وجنوب، غرباً وشرق.
أية صدفة ؟ في منتصف فبراير/شباط الماضي زرت بروكسل بدعوة من معهد غوتة لإحياء أمسية قراءة في المعهد الثقافي الايطالي في بروكسل، وعلى مدى يومي الإقامة لم انجح بزيارة الحي – المشكلة (كما هو شائع عنه في الإعلام) مولينبيك. وعندما جمعتني مائدة العشاء مع رئيسة المعهد في بروكسل، السيدة سوزانة هون، وسمعت منها، أن معهد غوتة في بلجيكا ينظم زيارات للبيوت في بروكسل للقراءات الأدبية، سألتها لماذا لا ينظم المعهد زيارة لأحد البيوت في مولينبيك، ولمفاجأتي، رحبت السيدة هون بالفكرة: "على شرط"، قالت، "أن تكون أنت من يقوم بذلك". فكيف أقول لا؟
يُنشر بالتزامن مع نشره في صحيفة نويرتزوريشير تزايتوغ السويسرية
يتبع
رحلة إلى بروكسل
[post-views]
نشر في: 12 يوليو, 2016: 09:01 م