في تقرير تلفزيوني بإحدى القنوات، يتحدث المعلق وهو يتجول في حدائق قصر امبراطوري مع أحد أمناء وخزنة القصر عن عقد ثمين جداً، كان لكونتيسة فرنسية سبق أن سُرق منها ثم استعيد بشكل غرائبي. وفيما كانت الكاميرا تتفحص العقد هذا كان أمين خزائن القصر، وهو رجل قارب الثمانين عاماً، يتكلم بأدق التفاصيل عنه وعن حادثة السرقة والاستعادة وسعادة الكونتيسة به، والنهاية المأساوية التي آلت اليها السارقة. ثم عدد السياح الذين يتوقفون في القصر كل يوم، لسماع الحادثة.
ومثل ذلك كنت متابعا لتقرير آخر، راح يتحدث عن تاريخ زهرة القرنفل في إحدى الحدائق البريطانية، عن موطنها الأصلي، وكيف جيء بها الى المملكة، ولكي يحيطنا علما عرّج المعلق على مجموعة القرنفليات في حدائق قصور الطبقات العليا في المجتمع، ثم أنه تحدث عن أنواع أخر من سلالات القرنفل في أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا، وعن أغرب انواعه.. وفي بحر من ساعة كاملة كنت وقعت على تفاصيل لا حصر لها عن وردة القرنفل، التي احتفظ بنبتة صغيرة منها في حديقة منزلي دونما ملاحظة مني للتفاصيل الكبيرة هذه. كنت تساءلت ما إذا كنا بحاجة لمثل الحدائق والمتاحف والقصور هذه أم لا ؟
قد لا تشكل تقارير مثل هذه شيئاً للعابر المتعجل في الحياة عندنا، أو هي بالفعل لا تشكل شيئاً لنا جميعاً، إذ ما معنى ذلك كله، ونحن لا نعيش إلا لحظة قصيرة منها، لا أكثر، وسط موت يتخطفنا من كل صوب؟ لكنني، وفي انتباهة استثنائية، توقفت طويلاً عند سماع منبه سيارة بيع قناني الغاز، التي عادة ما تروح وتغدو أمام باب بيتنا، استوقفتني النغمة الموسيقية الحزينة التي توجع القلب، نغمة مستلة من أضيق شرايين القلب حزنا وكمداً، نغمة عاشورائية، فجائعية، مليئة بالقهر والحزن راحت السيارة تبيعها مع ما تبيع من حرائق ونيران. استوقفتني طويلاً، ثم أنني رحت أستعيد اجتماع مجلس المحافظة وتصويته بالغالبية المطلقة على إطلاقها، وإلزام باعة الغاز وعبر مكبرات الصوت، بالترنم بها في أزقة وشوارع المدينة الميتة.
لا تختلف منصات النواح واللطم التي نصبها أتباع بعض الأحزاب الدينية أمام مجمع الليث المحترق، في الكرادة منذ أسبوع عن ذلك أبداً، هي متوالية تحرص العقلية الحاكمة على أدائها، لا تريد لنا أن نشفق على احوالنا بأغنية، بلمسة عطر، بهيئة وردة، بصورة إمراة جميلة. يتوقف، مستَنفرا أحدُ الملالي عن قراءة لطميته ،عندما شاهد بقربه إحدى النساء، كانت امرأة حاسرة ليسألها عن سبب عدم ارتدائها الحجاب، لكنه تراجع خائبا مثل جرذ، حين أعلمته بانها مسيحية، وهي ممن فقدن أحد أبنائهن في الفاجعة الكبيرة. لم يفقد الملا، الشيخ، المعمم احداً هنا، لكنه جاء يستعرض طاقته الخفية في اللطم.
عبّر الشباب المدنيون من أهل الكرادة والذين قدموا لهم من نواحي بغداد والمحافظات الصورة الأجمل، كانت باقات الزهور والشموع التي أضاؤوها في المكان، الفاجعة هي الاصدق والاكثر وطنية، لم يرفعوا شعارا طائفيا، ولم يعلقوا صورة لزعيم ديني، ولم يستثمروا ما أصاب الناس هنا، وسط النار والدم واللحم في مشروع سياسي.
ما ينقصنا، يا ناس هو زوال الطغمة هذه، لا نريد زوال القتلة بقدر ما نريد زوال المنتفعين من برك دمائنا الواسعة على الاسفلت، زوال الواقفين على رائحة الشواء المنبعثة من لحمنا ونحن نحترق كل يوم.
على بركة الدم.. وسط رائحة الشواء
[post-views]
نشر في: 12 يوليو, 2016: 09:01 م