TOP

جريدة المدى > تشكيل وعمارة > 55 سنة على تشييدها..قاعة كولبنكيان.. مفردة بغداد "المدينية"

55 سنة على تشييدها..قاعة كولبنكيان.. مفردة بغداد "المدينية"

نشر في: 16 يوليو, 2016: 12:01 ص

من بين المفردات التصميمية التي تسهم في تكريس "مدينية" المدن، وتأكيد اختلافها عن القرى والضواحي، وجود مقرات عديدة ومختلفة لنشاطات عامة، ضمن التخطيط الحضري لتلك المدن. والحال، ان اختلاف القرية عن المدينة، يتمظهر جيدا في هذا الجانب تحديدا، وليس في اية ن

من بين المفردات التصميمية التي تسهم في تكريس "مدينية" المدن، وتأكيد اختلافها عن القرى والضواحي، وجود مقرات عديدة ومختلفة لنشاطات عامة، ضمن التخطيط الحضري لتلك المدن. والحال، ان اختلاف القرية عن المدينة، يتمظهر جيدا في هذا الجانب تحديدا، وليس في اية ناحية أخرى. فعندما تحضر منشآت الأنشطة العامة المتنوعة في المدينة، ترتقي أهمية تلك المدن "حضرياً" الى مستوى "الحاضرة" Metropolitan. وبغياب ذلك الحضور، تبقى "المدن" ذات طابع أقرب الى الطابع الريفي منه الى الحضري.

لم تكن في بغداد ثمة مبان كثيرة مخصصة للفعاليات العامة الحديثة؛ كما ان "فضاء" المدينة الكبيرة لم يتعرف عليها الا في فترات زمنية متأخرة. اذ لم تكن على سبيل المثال، في بغداد لغاية الستينات، مبان خاصة بالمسارح، او المتاحف، كما لم توجد فيها قصور للثقافة او مراكز ثقافية كبرى، او مباني خاصة بالمكتبات الوطنية، او قاعات فنية او صالات عرض "غاليريات" او ما شابه ذلك. اذ كانت فعالية تلك الأنشطة، تجرى إما في مبانِ لم تكن مشيدة أصلا لهذه الأغراض، واما ان طبيعة تلك الانشطة "العامة" هي ذاتها تقليدية، مثل المقاهي والتجمعات الجماهيرية التي تمارس عادة في امكنة شعبية مألوفة. واستثني من ذلك مباني "دور السينما" التي كان يعتبر وجودها في المدينة بمثابة "نسمة" تحضر في بيئة "مسطحة" ورتيبة!
عندما بدأ التحديث الفعلي للانتقال ببغداد من مصاف مدينة كبيرة لتكون "حاضرة" العراق الأولى في الخمسينات، ابان فورة نشاط مجلس الاعمار، كان من ضمن المقترحات اعداد مشاريع لمبانِ ومقرات خاصة للأنشطة العامة المتنوعة. بيد ان كثرا يتذكرون، بأن معظم تلك الأفكار لم يكتب لها التحقق ولم تنفذ في حينها لأسباب معلومة. وعند بزوغ ثورة 14 تموز 1958، اولت اهتماما كبيرا لتلك الناحية "الحضرية"، وحرص مسؤولوها على تنفيذ مبان عديدة لأنشطة عامة مختلفة، وجدوا مسوغاً لتكون حاضرة في مفردات المخطط العام للعاصمة. من ضمن تلك المفردات: "قاعة كولبنكيان" او "مركز الفنون الحديثة" (لاحقا دُعيت بـ قاعة متحف الفن الحديث) في ساحة الطيران، والتي تعتبر من أوائل "مفردات" بغداد المدينية، هي التي فتحت بحضورها البهي في المشهد الحضري البغدادي، المجال واسعاً للانتقال بالمدينة الى مصاف "الحاضرة"، بكل ما يترتب عن تلك الكلمة من معانِ وتوصيفات. وهذه المفردة الحضرية ذات السمة الفنية والثقافية، التي تمر 55 سنة على تشييدها هذا العام، جرى تصميمها وتنفيذها بمنحة وفرتها مؤسسة "كالوست كولبنكيان" Calouste Gulbenkian Foundation، ومقرها في لشبونة البرتغال. واثناء زيارتي الأخيرة الى البرتغال، حرصت على زيارة المؤسسة، والتعرف على ارشيفها الوثائقي، فيما يخص عديد الأبنية المشيدة في عموم مدن العراق، التي ساهمت المؤسسة في تصميمها وتشييدها. وأود هنا، الإشارة، بان مؤسسة "كالوست كولبنكيان"، تمتلك ارشيفا هاما ومتنوعا عن تلك الأنشطة البنائية التي انجزتها في العراق. بالنسبة اليّ، انا الذي اعتبر نفسي، "قارئا" للعمارة العراقية الحداثية ومحباً لها، كان التعرف على ذلك الأرشيف القيم والنفيس، والاطلاع على محتوياته بمثابة الاطلاع على "كنز" معرفي؛ خصوصا، إذا قارنا ذلك بحالة الغياب التام لمثل هذه الممارسة الارشيفية ونوعية محتوياتها في بلدنا، حيث الفقدان والتلف للكثير من الوثائق الهامة وضياعها التي تتعاطى مع موضوعة العمارة الحديثة، هي الحالة السائدة بالعراق اليوم. بل الانكى من ذلك، هو عدم الاكتراث او الاعتراف، وحتى عدم المعرفة بأهمية وجدوى هذا النشاط الاساسي من قبل المتنفذين الجدد، الذين تبوأوا، صدفةً، المسؤولية الإدارية مؤخراً. لكن هذه... قصة آخرى...موجعة!  
يعود تاريخ تصميم قاعة كولبنكيان الى أوائل عام 1960، وتحديدا الى شباط من تلك السنة. فقد قدم، حينها، الجانب البرتغالي تصميمه الاولي ، المعد من قبل المعمار "خورخي سوتو-مايور دي الميدا" (1924-1996)  Jorge Sotto- Mayor d’Almeida، الذي يعمل في مؤسسة كولبنكيان، قدمه الى الجانب العراقي الزائر الى لشبونة، من اجل تصديق متطلبات المشروع والموافقة على الأفكار التصميمية. في تلك الاثناء، ووفقا لوثيقة اطلعت عليها في مؤسسة كولبنكيان خاصة بالتقرير الفني لمركز الفنون ببغداد (كما كانت تدعي قاعة كولبنكيان)، فإن الوفد العراقي الذي مثله المهندس "صباح حمدي" عن مديرية المباني العامة، الجهة المفاوضة عن "امانة العاصمة"، والتي اعتبرت "رب العمل"، قد اجرى حوارات مستفيضة مع المعمار المصمم، الذي استفسر بإسهاب عن طبيعة الظروف المناخية المحلية، ونوعية المواد الانشائية المستخدمة في البناء المحلي، وكذلك عن الأساليب التركيبة الشائعة في الممارسة البنائية المحلية وغير ذلك من الأمور التي بموجبها تم اجراء تعديلات وتحسينات على التصميم الاولي المعد. وقد تم تثبيت متطلبات مشروع “القاعة" في الأقسام الرئيسية التالية:
- قاعة العرض الرئيسية في الطابق الأرضي.
- قاعة عرض أخرى في الطابق الأول.
- فضاءات إدارية مع أحياز خاصة للخزن والارشيف. بالإضافة الى أحياز الخدمات الهندسية.
كما اطلعت على وثيقة أخرى، تشير الى استحصال موافقات الجانب العراقي، على التحسينات والتغييرات التي أجريت على التصميم. وفيها يتعهد الجانب البرتغالي بالعمل على اعداد المخططات المعمارية والهندسية اللازمة للمشروع، فضلا عن تأمين عمل نموذج بمقياس مناسب للقاعة. وتم توقيع هذه المذكرة من الجهتين: مؤسسة كولبنكيان والمهندس المفاوض صباح حمدي في 31 كانون الأول سنة 1960 (أي اخر يوم من تلك السنة!). وقد اوفت المؤسسة بوعدها واعدت جميع المخططات وعملت نموذجا "ماكيتاً" للمشروع، وقدمت كل ذلك الى الجانب العراقي. وتم تنظيم حفل وضع الحجر الأساس للمشروع، من قبل امانة العاصمة، عشية الذكرى السنوية لثورة تموز سنة 1961، وفي نفس الموقع المستقبلي للقاعة. وقد حضر الزعيم عبد الكريم قاسم وعبد المجيد حسن: امين العاصمة، وقتها، وآخرون مراسيم هذا الاحتفال.
يعتمد الحل التكويني – الفضائي لقاعة كولبنكيان، على الاتكاء لخيار المقاربة الحداثية، كحل ملائم للمعمار، ومناسب لطبيعة المبنى. فالمقاربة الحداثية تمنح التصميم نوعا من الاتساق مع ما يدور في الممارسة المعمارية العالمية وقتذاك. كما انها "حيادية"، بمعنى انها "تنقذ" المعمار من ورطة الاشتغال على الأسلوب التقليدي المحلي، الذي يجهله المصمم، تماما، ولا يعرف خفاياه. والحال، ان المقاربة الحداثية، كانت رائجة جدا في المشهد المعماري، ومفهومه جدا من قبل المعماريين...والجمهور ايضاً. ثمة كتلتان رئيسيتان يتألف من كلتيهما مبنى القاعة البغدادية: احداهما واطئة في الارتفاع، تقع في الجهة الجنوبية من الموقع (على يسار المدخل الرئيس)، خاصة بقاعة العرض الرئيسية بالطابق الأرضي، والكتلة الآخرى الثانية، عالية، موقعة في الجهة الشمالية من الموقع (على يمين المدخل الرئيس)، تتضمن قاعة عرض في الطابق الأول، واقسام الإدارة والارشيف والخزن. ولئن استخدم المعمار التقسيمات العمودية الناتجة عن المنظومة الانشائية، في الكتلة الواطئة، فانه اتخذ من توظيف شبكة الاضلاع الخرسانية المتقاطعة، "موتيفاً" لمعالجات واجهة الكتلة العالية؛ مانحاً بهذا كل من الكتلتين شكلهما الخاص المعروفين به. لقد أولى المعمار اهتماما الى طبيعة عمل الاحياز التي تقع خلف "شاشة" الواجهات، بجعل الإضاءة فيها "تترشح" عبر منظومة من تشكيلات خرسانية مكررة لكاسرات الشمس، والتي تعد، أيضا، إسهامته الواضحة في تكريس خصوصية المكان، عبر تأكيد دور الظروف المناخية المحلية في الحل التصميمي.
يعير المصمم اكتراثا ملحوظاً الى دور الانارة في مبناه. وإذ يعي تماماً طبيعة المبنى وخصوصيته كقاعة لعرض الفنون، فانه يلجأ الى غلق تام لجميع جهات القاعة الرئيسية (ما عدا وجود بابين في الجهة الجنوبية، خاصة بالسماح لإدخال القطع الفنية الكبيرة الى فضاء القاعة). جاعلا من الانارة السقفية التي خلقها، المصدر الاساس لإنارة القاعة ومعروضاتها. يمثل مجال "باع" Span القاعة الواسع نوعا ما، والخالي من الاعمدة الوسطية، حدثاً انشائيا لافتا، ابان تلك الحقبة الزمنية من بداية الستينات. وكان قرار المعمار "بتحرير" الفضاء الداخلي من الاعمدة، قراراً جريئاً وصائباً، يتماشى مع متطلبات وظيفة قاعة كفضاء عرض. وتضيف القواطع الوقتية والمتحركة داخل القاعة اسطحاً إضافية لمساحات عرض سطوح الجدران الصماء التي اجترحها المعمار. وعلى العموم، فإن أسلوب "تنطيق" عناصر تصميم القاعة ونوعية تفاصيل مفرداتها، رغم جدتها وطزاجة اشكالها في المشهد المعماري المحلي، لم ترتقِ بحلولها التكوينية – الفضائية الى مستوى لافت من الاثارة التصميمية، كما انها لم تعد، حينذاك، من الإضافات المعمارية المهمة. ولعل نزعة الاختزال، التي انطوت عليها عمارة القاعة، و"الترجمة" الوظيفية المباشرة، المبالغ بها في أسلوب عمل مثل ذلك "التنطيق"، جعلت من عمارة المبنى ان تكون من ضمن التجارب المألوفة، وحتى العادية، التي تشاهد في الغالب بفضاءات المدن الاوربية.
بالطبع، لا يمكن، باية حال، مقارنة صنيع "خورخي دي الميدا" لقاعة بغداد هذه، مع ما ابدعه المعمار الفنلندي ذي الشهرة العالمية "الفار آلتو" (1898- 1976) Alvar Aalto ، في مشروع "غاليري الفنون الجميلة" ببغداد (1957)، بمنطقة "العوينة" بوسط بغداد، والذي لم يرَ النور، مع الأسف الشديد. اذ اعتبر ذلك المشروع، لحظة تاريخية ذات أهمية بمكان في مجال العمارة العالمية، مثلما هي مهمة في منجز "آلتو" نفسه، كما كان يمكن ان يكون المبنى، في حالة تنفيذه إضافة حقيقة ومعتبرة الى المنتج المعماري العراقي، لجهة لغته المعمارية الحداثية، ومقدرة المعمار العالية في الإفصاح الإبداعي عن مفردات تلك اللغة وكيفية تنطيقها. وكان يمكن ان يكون ذلك المشروع، ايضاً، فخر بيئة المدينة المبنية، ومجال اعتزاز سكنتها وزوارها العديدين. لكن المدينة "غير المحظوظة" فرطت بهذا المشروع، مثلما فرطت بتصاميم معماريين كبار، اشتغلوا خصيصا لبغداد. وكان ذلك التفريط بسبب قلة الخبرة، وبموجب نوازع التبجح الكاذب، وأحيانا بداعي حماقة، ورعونة، وجهل الذين قدر ان يكون عندهم سلطة القرار التنفيذي. لكن ذلك، مرة ثانية، قصة... آخرى، وهي موجعة ...ايضا!
وتبقى اشارتنا في تقييم عمارة مبنى "قاعة كولبنكيان" منطلقة من ذائقة جمالية معينة، تعود بمرجعياتها الى المتغيرات الكبرى الى شهدتها الأساليب والطرز المعمارية المعاصرة وطرق تذوقها. وهذا يدعونا، انصافاً، الى رؤية الحدث الناجز ضمن نظرة "تاريخانية"، تتيح ادراكه ضمن الانساق المحلية والثقافية ذاتها، التي كانت ذات يوم فعالة ومؤثرة على الصياغات التصميمية.  وهو ما يقودنا الى الإشادة بذلك الظهور الهام للمبنى، والاحتفاء به، هو الذي قدر له ان يكون فاتحة لحضور مفردات "مدينية" عديدة، وجدت فيه نموذجاً لها ومثالا يقتدى به. من هنا، تلك الأهمية الفائقة التي يتعين علينا الاعتراف بها، التي شكلها وجود هذا المبنى المميز في تلك البيئة المبنية الفقيرة.  بيد ان، الامر اللافت في مسار ظهور هذه المفردة المدينية الأولى، هو الاهتمام الكبير الذي حظيت به من قبل زعيم البلاد، وقتها، قائد الثورة عبد الكريم قاسم، ومطالبته لتوفير وتشييد مثل تلك الاحياز الخاصة ذات الوظائف المهتمة بالثقافة والفنون، وخصوصا الفنون، التي تشهد في الفترات الأخيرة، ليس فقط نقصا كبيرا في مبانيها، وانما اهملت فكرتها بالأساس، وصرف النظر عن مراكزها وما تمثله من قيمة حضارية وثقافية، وحتى، احياناً، تم ادراج بعض فعالياتها ضمن "المحرمات" التي يتعين هجرها والابتعاد عن بنائها ورعايتها.
ولعل التأكيد الآن، على حدث عمارة “قاعة كولبنكيان"، وما مثلته من قيمة ثقافية وحضارية، وما افصحت به عمارتها اللافتة، وقتها، من جدة في المقاربة التصميمية وتكريس معناها في المشهد، يدعونا للتمعن بأهمية ما تم اجتراحه سابقاً، وإظهار اهتمام الجميع بهذا الحدث، إن كان ذلك على النطاق الرسمي، ام الشعبي، والفرح والابتهاج بالمتحقق والناجز، هو الذي يعد حضوره في البيئة البغدادية المبنية بمثابة باكورة انتقال عاصمتنا الى مصاف الحاضرة، التي لا يمكن لاحد، راهناً، وفق اعتقادنا، وأد اشعاعها الإنساني، او التعتيم على دورها الثقافي بأية حال من الأحوال!

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. خالد السامرائي

    التفاته رائعه من د خالد السلطاني الى الكتابه عن مبنى لعب دورا مهم في تطوير حركة الفن الحديث و قدم نتاجات فنيه باهره راحت الكثير منها و وصلت الى مستويات عالميه. لقد عرفت هذه البنايه عرفت العالم بما يملكه الفنان العراقي من حس فني مرهف وضعه في مصاف عمالقه ال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

مقالات ذات صلة

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

إندونيسي يتزوج 87 مرة انتقاماً لحبه الفاشل 

شباب كثر يمرون بتجارب حب وعشق فاشلة، لكن هذا الإندونيسي لم يكن حبه فاشلاً فقط بل زواجه أيضاً، حيث طلبت زوجته الأولى الطلاق بعد عامين فقط من الارتباط به. ولذلك قرر الانتقام بطريقته الخاصة....
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram