جهاد قادربعد أن إنتصرت الثقافة العامية، أخذ كبار المثقفين أقلامهم ليدافعوا عن اللغة الفصحى وكان العقاد من كبار المدافعين عن القصيدة الفصحى وترك وراءه تراثاً شعرياً يقدر بـ أحدى عشر ديواناً باللغة الفصحى إلا أنه من سوء حظه أن الملحنين والمغنيين إتجهوا إلى الكلمة العامية بعد ثورة 1919م ولشعراء من أمثال أحمد رامي وبيرم التونسي ومأمون الشناوي وبديع خيري
ويقول يحي حقي:لم تكن الفصحى قد أفلحت بعدفي أن تسمي لنا أشياء نلسمهابأيدينا أو أفكاراًمجردة تطوق بعقولنا ، أو ظلالعواطف تلم قلوبنا.... وقد دعتنااللغة العامية أول الأمر فهممناأن نجري إليها ... لأننا كنا نتلهفأن يكون الأدب صادقاً في التعبير عن المجتمع"( ).إن هذا الإحساس ليحيى حقي، جاء نتيجة إحساسه بالفجوة العميقة بين كتاب الفصحى والجماهير الشعبية فالفجوة بين المثقفين وبين الجماهير كبيرة، وسرعة الإتصال كانت في بداياتها ولكنها بطيئة لأن الجماهير الشعبية على إمتداد قاعدتها العريضة، لا تجد في شعر عباس محمود العقاد أي تعبير يعبر عن إحتياجاتها اليومية، لذلك فقد كانت تكبر الفجوة في كل يوم بين العقاد والجماهير، وأصبحت هذه الفجوة مزمنة، بمقابل ذلك إزدادت الصلة بين الجماهير وبين كتاب العامية لأنها أسرع من الفصحى في توصيل المعلومات، وإبتعدت الفصحى لدرجة أنها أصبحت حالة مرضية مستعصية على الفهم والإدراك، وتحول عباس محمود العقاد إلى شبه معتزل يعيش في جزيرة شبه معزولة عن الجماهير العريضة، حتى أنه يمتدح الغموض والإبهام في حياة المثقفين والشعراء والحكماء والفلاسفة، وآثر العقاد الغموض على الوضوح وقال في مقدمة كتابه "رجعة أبي العلاء المعري". ثلاث علامات من إجتمعن له كان من عظماء الرجال وكان له حقاً في الخلود: فرط الإعجاب من محبية وفرط الحقد من حاسديه، وجو من الأسرار والألغاز يعيش بهن، فيستحار فيه الواصفون فيستكثرون قدرته على الآدمية فيردون تلك القدرة تارة إلى الإعجاز الإلهي وتارة إلى السحر والكهانة( ).من هنا كان العقاد وأمثاله يشعرون بالتميز عن طبقة الجماهير الواسعة، وكانت الجماهير بنفس الوقت تشعر أن الثقافة والمثقفين يستعلون عليهم. وحتى اليوم ما زال أكثر الناس يتهمون من يخاطبهم بالفصحى، بالسخرية منهم.لذلك ومن منطلق تعريف العقاد للمعري كان هذا التعريف يشمل كافة قطاعات المثقفين الأقوياء ومن الطامة الكبرى أن يدفع المثقفون الحقيقيون ثمن نجاحهم باهظاً جداً أو أن يكونوا ضحية نجاحهم وبعبارة أخرى: كانت قراءات العقاد الكثيرة قد ابعدته عن الواقع الحقيقي للمجتمع وجعلته مستعصياً على الفهم إلا من طبقة النخبة، وقد يكون من السهل جداً على القارئ العادي أن يقرئ لطة حسين وتوفيق الحكيم في خضم أعتى الازمات وفي القطارات والشوارع العامة والمرافق العامة ولكن ليس من السهل على أي قارئ أن يقرئ للعقاد إلا في ظل ظروف وطقوس غير عادية.وأحياناً يستعصي على القارئ غير العادي، لقد قال عنه مفكر عربي مثل (زكي نجيب محمود)( )."شعر العقاد أقرب شيئ إلى فن العمارة والنحت، فالقصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى هرم الجيزة أو معبد الكرنك أو مسجد السلطان حسن منها إلى الزهرة والعصفور وجدول الماء، القصيدة الكبرى من قصائده أقرب إلى تمثال رمسيس منها إلى الإناء الخزفي الرقيق.."وكثيراً ما كان يقع العقاد ضحية نقده لغيره من الأدباء جاءته في إحدى الأيام رسالة من أحد قراءه يقول له فيها:"لماذا كتبت عن ابن الرومي الشاعرولم تكتب عن أبي تمام الشاعر"فأجاب:"أنا أكتب عن ابن الرومي لأن إبن الرومي شاعر أما أبا تمام فحكيم وليس شاعراً كإبن الرومي، إن الشاعر الحقيقي مثله مثل العدسة يصور كل ما يصادفه، أما الحكيم فإن كل تصاويره إنتقائية، لا تخضع لشروط الشعر بقدر ما تخضع لشروط العقل والمنطق والحكمة".وإن من يقرئ شعر العقاد يجده كما وجد هو أبا تمام، لقد كان العقاد بشعره حكيماً، والدليل على ذلك كان يقدره النقاد من خلال قوله عن ام كلثوم أن صوتها فقط جميل لأنه لا يعترف بجمال القصائد المغناه "لأنها لم تغن من شعره، ولم تغن أم كلثوم وغيرها من شعر العقاد لأن العقاد لم يلامس العواطف السطحية التي تحرك مشاعر الشعوب ونبض الحياة اليومية. وهي وظيفة الشعر.لذلك لم تفهم شعره إلا النخبة المثقفة أما باقي الناس فما زالوا إلى اليوم لا يفهمونه أبداً" وقراءة العقاد تحتاج إلى هز الرأس وحكه أما قراءة غيره فلا تحتاج إلى هذا التعب لقد كان من الخير للعقاد أن لا يكتب شعراً على الإطلاق وكان عليه أن يلتزم بتخصصه الدقيق لقد أفلح العقاد جداً بكتابه "التراجم" والمقصود بالتراجم: السير الذاتية للمشاهير والعظماء والعباقرة والأنبياء والرسل، وقدم أعظم كتاب عن نشأة الدين، كان أفظل كِتابٍ من إعماله كتاب "الله" وصدرت طبعتُهُ الأولى سنة 1947م وهذا الكتاب من روائع العقاد لأنه كُتب بعد مرحلة النضج الفكري وأكاد أن أحسبه أهم مفتاح لشخصية العقاد( ) وكان عمره (58 عاماً) لم يكتب العقاد شعراً يحرك به نبض الشارع العادي أي أن العقاد لم يكن شاعراً شعبياً، بل كان فيلسوفاً عالمياً كَسَبَ بشعره العظماء في عصره ولم يكسب به البسطاء والمساكين، كما كان حافظ إبراهيم لقد كان "حافظ إبراهي
عباس محمود العقاد.. ومفهوم الثقافة
نشر في: 29 يناير, 2010: 04:53 م