نظَّف حذاءه من الطين، وأزال بعض الأشواك العالقة في الجوانب المطاطية للحذاء.. ظننت أنه قد تلوث على هذا النحو بسبب تساقط المطر، ولكن الفتى قال إنه قد انتهى للتو من وضع شاهدة جديدة لقبر رجل مات مدهوساً في المنطقة المجاورة للمقبرة.. أسنانه الأمامية النات
نظَّف حذاءه من الطين، وأزال بعض الأشواك العالقة في الجوانب المطاطية للحذاء.. ظننت أنه قد تلوث على هذا النحو بسبب تساقط المطر، ولكن الفتى قال إنه قد انتهى للتو من وضع شاهدة جديدة لقبر رجل مات مدهوساً في المنطقة المجاورة للمقبرة.. أسنانه الأمامية الناتئة تكسرت بسبب ضربة خاطئة من المجرفة.. وكانت تمنحه مسحة من الطيبة والبراءة، وتجعل فمه يبدو شبيهاً بأفواه الأطفال الذين نبتت أسنانهم اللبنية للتو.
قبل فترة من الوقت كنت قد طلبت منه أن يقوم بإعادة ترقيش بعض الخطوط التي تآكلت بفعل الأملاح، أو اختفت تقريباً من الشواهد.. وكنا على تواصل معه طيلة تلك الفترة عن طريق الموبايل.. اسمه وليد، فتى طيب القلب حسن الأخلاق، ولم يكن خطاط المقبرة حسب، ولكنه المعني ببعض شؤون التنظيف والدفن وزراعة الأشجار.. وهو الذي اقترح علينا زراعة شتلة زيتون صغيرة بين قبري أمي وأخي الشهيد.. فهي الوحيدة التي تصمد في الأجواء الحارة، ولا تحتاج إلى الكثير من السقي بالماء..
حان موعد الذهاب اليوم.. خرجنا في وقت مبكر من الصباح، وكنت أخشى أن أجده قد أخطأ في كتابة بعض الأسماء، أو يكون قد تصرف في صياغة بعض اللمسات بدون الرجوع إلينا، فنضطر إلى إعادة العمل مرة أخرى من أجل الوصول إلى الشكل الأمثل الذي نريده. وهذا ما يحدث أحياناً في دائرة الجوازات أو الأحوال المدنية... ويجعلنا نعاني الأمرّين في حالة حدوث أخطاء في كتابة الأسماء أو الألقاب أو تواريخ الولادة، بل قد يلازمنا الضيق، وينتابنا الأرق قبل أن يأتي يوم التحقق منها، والتأكد من أنها صحيحة مئة بالمئة..
هذه المرة لم يكن ثمة داع لضيق شديد، أو قلق ممض.... فعدا زيارتنا السابقة، لم يحتج إنجاز المهمة سوى بضعة توجيهات تمت عبر عدد قليل من المكالمات الهاتفية، وكما يبدو، فإن هذا القفر النائي هو المكان الوحيد الذي تنقضي فيه الأمور بسلاسة، ولا تلاقي ما تلاقيه باقي المراجعات من عوائق أو تعقيدات.. بل أن الخطاط عندما انتهى من انجاز مهمته في الوقت المحدد، هو الذي اتصل بنا وطلب منا المجيء.
مشينا وتعثرنا بين التراب والحجارة، وقرأنا تلك الاسماء التي نمر بها كلما نزلنا من باب السيارة، حفظنا القديمة منها عن ظهر قلب، وقرأنا أسماء أخرى جديدة أثناء توجهنا إلى المكان الصحيح، تلفتنا في أكثر من جهة، ورأينا وليداً قادماً من بعيد.. وبعد أن نظرنا إلى الشواهد التي تخصنا، وتحققنا من جميع الأسماء والألقاب وتواريخ الولادة والوفاة، ذهبنا وشكرناه على عمله المتقن، وقلنا له بأننا سنزيد له المبلغ، لإنه يستحق ذلك، وهذا ما حدث فعلاً.
في النهاية وقفنا نتداول معه في بعض التصليحات الأخرى للسور المثلم، والمصطبة المكسورة، وبعد أن اتفقنا على كل شيء وخرجنا، استوقفنا الخطاط، وصاح علينا وسألنا:
- العلم أيضاً يحتاج إلى طلاء، هل أصبغه لكم؟
استدرت الى العلم، ولم أكن قد انتبهت إليه، فوجدته قد تحول إلى لوحة بيضاء بثلاث نجوم باهتة معلقة على سور المقبرة بقرب لوحة ثانية من المرمر فيها آيات قرآنية، وأخرى فيها كلمات رثاء عن أخي الشهيد، وهذه اللوحات الثلاث موجودة في مكانها هناك منذ بداية الثمانينات. قلت له:
- نعم اصبغه فقد انمسح تماماً... إرجعه كما كان مثل باقي الأسماء.
هنا سألني وليد:
- هل أبقيه كما كان بثلاث نجمات، أم أضع (الله أكبر) بين النجمتين، أم أمسح النجمات الثلاث، وأضع فقط عبارة (الله أكبر)؟
صمت عميق، ثم تبسمت بأسى لأسئلة الخطاط التي اخترقتني بفكرتها العبثية: إن العلم الذي يستشهد من أجله الشهداء قد يتبدل ثلاث مرات في العمر الواحد.
