شخصياً، اعتبر مهنة سائق التاكسي تحمل بعدا إنسانيا وليس خدميا وحسب. فهذا الذي يجوب الشوارع ليلا ليوفر لقمة عيشه، وأغلب الناس نيام، قطعا سينجد مريضا أو مصابا أو تائها لا يعرف طريقه. المسألة لمن ينظرها من زاوية إنسانية يجدها ابعد من قضية كسب مادي. إني أجد فيها شيئا من المحبة للآخر.
لم تتعمق علاقتي بسوّاق التاكسي في أي بلد مثلما هي عليه بمصر. السبب إني غالبا استعمل سيارتي الخاصة في أي مدينة أقيم بها لفترة من الزمن، إلا القاهرة. عندي قناعة إنني لو قدت سيارتي في أي من شوارعها لعشرة أمتار سأتعرض لعشر حوادث على الأقل. لذا ليس لي غير أن أبعد عن الشر وأغني له.
سائقو التاكسي بالقاهرة وحدها يشكلون طبقة اجتماعية لكثرتهم. إنهم شبكة ناقلة للمعلومات، ويمكنك أن تستشف منهم اتجاهات الرأي العام المصري بسهولة. عندما أصعد مع سائق تاكسي لا احتاج غير أن اسأله: أيه الأخبار يا ريس؟ فيأتيني بالموجز ثم يتبعه بنشرة مفصلة يتوقف طولها على بعد المسافة المتبقية صوب المكان الذي اقصده. غالبا ما أقاطعه بسؤال: والإخوان عاملين أيه؟ هنا يبدأ بالتحليل ويعطيني رأي الشارع بدقة. الخلاصة هي أن الناس تورطت بانتخاب الإخوان ولا يمكن لهذه الورطة أن تتكرر.
وحتى إن لم تسأل سائق التاكسي المصري فهو لا يتركك بحالك خاصة إذا اكتشف انك أجنبي. سيعرف ذلك ببساطة مهما اجتهدت في تغيير لهجتك نحو المصرية. يبدأ باستدراجك لاكتشاف من أي بلد آنت. وإذا عرف انك عراقي يظل "يحوص" إلى أن يعرف هل انك شيعي أم سني. وهنا تبقى أنت وشطارتك.
ذات ليلة كنت معزوما لدى صديق عراقي خرجت من عنده وجه الصباح بعد أن أثقلنا بطوننا بالمنعشات الباردات. وتجنبا لأي مشكلة، وخوفا من أن يكون سائق التاكسي الذي سيوصلني لبيتي سلفيا، قررت أن لا أفتح أي حوار معه. لم يطق السائق صبرا على صمتي فسألني عن بلدي الأصلي مع سؤالين آخرين سريعين فأجبته باقتضاب شديد. بادرني من دون مقدمات: صلّ على النبي. اللهم صلّ عليه، وسكتُّ بعد أن قلت في قرارة نفسي "هذا الخفت منه طحت بيه". والخائف قد يرى ما لا يخيف مرعبا.
بدأ يتحدث عن الوضع السياسي والغلاء ومشكلة البنزين. وبين فينة وأخرى يكرر عليّ: صلّ على النبي. ومن دون تدقيق أو تمحيص قلت إن الرجل سلفي. وما أثقل الدقائق حين تحس أن سلفيا يترصدك. جربت أن اكتم نفسي خوفا من أن يشم رائحة "المنكر" ويحدث ما لا يحمد عقباه حتى طار ثلاثة أرباع ما في رأسي من انتعاش.
وحين اقتربت من البيت، وعلى عادة اغلب سواق التاكسي بالقاهرة، قال لي: ممكن يا باشا أعطيك نمرتي وإذا احتجتني أنا بخدمتك. وقبل أن انزل كتب الرقم مع اسمه. اسمك ميشيل؟ نعم يا سعادة الباشا. يعني أنت مسيحي؟ نعم يا بيه. أمال عملت فيّه كده ليه يا ميشيل؟ هوّه أنا عملت حاجة وحشة لا سمح الله؟ لا سلامتك ماكو شي !
في حضرة سائق التاكسي
[post-views]
نشر في: 31 أكتوبر, 2012: 11:00 م