عبد الجبار داود البصري تبوأ العقاد مكانة عالية في النهضة الأدبية الحديثة ندر من نافسه فيها، فهو يقف بين أعلامها، وكلهم هامات سامقة، علمًا شامخًا وقمة باذخة، يبدو لمن يقترب منه كالبحر العظيم من أي الجهات أتيته راعك اتساعه، وعمقه، أو كقمة الهرم الراسخ لا ترقى إليه إلا من قاعدته الواسعة، واجتمع له ما لم يجتمع لغيره من المواهب والملَكَات، فهو كاتب كبير، وشاعر لامع،
وناقد بصير، ومؤرخ حصيف، ولغوي بصير، وسياسي حاذق، وصحفي نابه، ولم ينل منزلته الرفيعة بجاه أو سلطان، أو بدرجات، وشهادات، بل نالها بمواهبه المتعددة، وهمته العالية، ودأبه المتصل، عاش من قلمه وكتبه، وترفع عن الوظائف والمناصب لا كرها فيها، بل صونًا لحريته واعتزازًا بها، وخوفًا من أن تنازعه الوظائف عشقه للمعرفة. شباب وإباء وحياة العقاد سلسلة طويلة من الكفاح المتصل والعمل الدؤوب، صارع الحياة والأحداث وتسامى على الصعاب، وعرف حياة السجن وشظف العيش، واضطهاد الحكام، لكن ذلك كله لم يُوهِنْ عزمه أو يصرفه عما نذر نفسه له، خلص للأدب والفكر مخلصًا له، وترهب في محراب العلم؛ فأعطاه ما يستحق من مكانة وتقدير.rnالمولد والنشأةفي مدينة أسوان بصعيد مصر، وُلِدَ عباس محمود العقاد في يوم الجمعة الموافق (29 من شوال 1306هـ= 28 من يونيو 1889)، ونشأ في أسرة كريمة، وتلقى تعليمه الابتدائي بمدرسة أسوان الأميرية، وحصل منها على الشهادة الابتدائية سنة (1321هـ= 1903م) وهو في الرابعة عشرة من عمره.وفي أثناء دراسته كان يتردد مع أبيه على مجلس الشيخ أحمد الجداوي، وهو من علماء الأزهر الذين لزموا جمال الدين الأفغاني ، وكان مجلسه مجلس أدب وعلم، فأحب الفتى الصغير القراءة والاطلاع، فكان مما قرأه في هذه الفترة "المُسْتَطْرَف في كل فن مستظرف" للأبشيهي، و"قصص ألف ليلة وليلة"، وديوان البهاء زهير وغيرها، وصادف هذا هوى في نفسه، ما زاد إقباله على مطالعة الكتب العربية والإفرنجية، وبدأ في نظم الشعر.rnولم يكمل العقاد تعليمه بعد حصوله على الشهادة الابتدائية، بل عمل موظفًا في الحكومة بمدينة قنا سنة (1323هـ= 1905م) ثم نُقِلَ إلى الزقازيق سنة (1325هـ= 1907م) وعمل في القسم المالي بمديرية الشرقية، وفي هذه السنة توفي أبوه، فانتقل إلى القاهرة واستقر بها.rnالاشتغال بالصحافة زيارة طلبة الكلية العسكرية للعقاد في مكتبه ضاق العقاد بحياة الوظيفة وقيودها، ولم يكن له أمل في الحياة غير صناعة القلم، وهذه الصناعة ميدانها الصحافة، فاتجه إليها، وكان أول اتصاله بها في سنة (1325هـ= 1907م) حين عمل مع العلامة محمد فريد وجدي في جريدة الدستور اليومية التي كان يصدرها، وتحمل معه أعباء التحرير والترجمة والتصحيح من العدد الأول حتى العدد الأخير، فلم يكن معهما أحد يساعدهما في التحرير. وبعد توقف الجريدة عاد العقاد سنة (1331هـ= 1912م) إلى الوظيفة بديوان الأوقاف، لكنه ضاق بها، فتركها، واشترك في تحرير جريدة المؤيد التي كان يصدرها الشيخ علي يوسف، وسرعان ما اصطدم بسياسة الجريدة، التي كانت تؤيد الخديوي عباس حلمي، فتركها وعمل بالتدريس فترة مع الكاتب الكبير إبراهيم عبد القادر المازني، ثم عاد إلى الاشتغال بالصحافة في جريدة الأهالي سنة (1336هـ= 1917م) وكانت تَصْدُر بالإسكندرية، ثم تركها وعمل بجريدة الأهرام سنة (1338هـ= 1919م) واشتغل بالحركة الوطنية التي اشتغلت بعد ثورة 1919م، وصار من كُتَّابها الكبار مدافعًا عن حقوق الوطن في الحرية والاستقلال، وأصبح الكاتب الأول لحزب الوفد، المدافع عنه أمام خصومه من الأحزاب الأخرى، ودخل في معارك حامية مع منتقدي سعد زغلول زعيم الأمة حول سياسة المفاوضات مع الإنكليز بعد الثورة.وبعد فترة انتقل للعمل مع عبد القادر حمزة سنة (1342هـ= 1923م) في جريدة البلاغ، وارتبط اسمه بتلك الجريدة، وملحقها الأدبي الأسبوعي لسنوات طويلة، ولمع اسمه، وذاع صيته واُنْتخب عضوا بمجلس النواب، ولن يَنسى له التاريخ وقفته الشجاعة حين أراد الملك فؤاد إسقاط عبارتين من الدستور، تنص إحداهما على أن الأمة مصدر السلطات، والأخرى أن الوزارة مسؤولة أمام البرلمان، فارتفع صوت العقاد من تحت قبة البرلمان على رؤوس الأشهاد من أعضائه قائلا: "إن الأمة على استعداد لأن تسحق أكبر رأس في البلاد يخون الدستور ولا يصونه"، وقد كلفته هذه الكلمة الشجاعة تسعة أشهر من السجن سنة (1349هـ= 1930م) بتهمة العيب في الذات الملكية.وظل العقاد منتميًا لحزب الوفد حتى اصطدم بسياسته تحت زعامة مصطفى النحاس باشا في سنة ( 1354هـ= 1935م) فانسحب من العمل السياسي، وبدأ نشاطُه الصحفي يقل بالتدريج وينتقل إلى مجال التأليف، وإن كانت مساهماته بالمقالات لم تنقطع إلى الصحف، فشارك في تحرير صحف روزاليوسف، والهلال، وأخبار اليوم، ومجلة الأزهر.rnمؤلفات العقادالمستقبل في عيون مفكر عُرف العقاد منذ صغره بنهمه الشديد في القراءة، وإنفاقه الساعات الطوال في البحث والدرس، وقدرته الفائقة على الفهم والاستيعاب، وشملت قراءاته الأدب العربي والآداب العالمية فلم ينقطع يومًا عن الاتصال بهما، لا يحوله مانع عن قراءة عيونهما ومتابعة الجديد الذي يصدر منهما، وبلغ من شغفه بالقراءة أنه يطالع كتبًا كثيرة لا ينوي الكتابة في موضوعاتها حتى إن أديبًا زاره
العقاد.. رحلة قلم
نشر في: 29 يناير, 2010: 04:59 م