جلس كاتب العمود الصحفي وراء حاسوبه ليكتب عموده الذي لم يتبق على موعد إرساله للصحيفة أكثر من ساعة.
العالم مليء بالأحداث، بدءاً من الوطن، وسابع جيرانه، وليس انتهاء ببلدان الإفرنج البعيدة.
يقول غير العارف: إنه مجرد عمود صحفي من خمسمئة كلمة. الأمر بسيط، يا صاحبي!
يرد كاتب العمود: كلا، يا صاحبي، الأمر ليس كما تظن. كتابة عمود صحفي تختلف حتى عن كتابة المقال. العمود الصحفي أقرب إلى كتابة قصة قصيرة. بل أقرب لكتابة قصيدة، أو أي عمل فني آخر.
شروط التقنية وتركيز الفكرة واختزال المشهد وتبئير القصد وعدم الإفراط بالوصف وتجنب الإنشاء واحترام النفس والاحتراس من القارئ، كلها، وغيرها، تعمّق حيرة كاتب العمود الصحفي.
الحيرة، هنا، هي مقدار ما تنوء به الروح من التباس الحياة اليومية للعالم وصراع إداراته ومراكز قواه الفتاكة، المعلوم منها والخفي، مقابل زهد كاتب العمود في خوض المعترك اليومي للعالم وعدم الانغماس في موبقاته الفاقعة، ووضع مسافة ضرورية بينه وبين متطلبات الميديا المتغولة، وهي في هجومها الصاخب على كل شيء بما في ذلك الألم الصغير، غير المنظور، وغير المدون، لروح كائن حي، له اسم وتاريخ، وله عائلة من أبوين وأخوة. له تاريخ مثل البشر لكن ليست له ذاكرة، مثل بعض البشر.
هذا الكائن الحي هو العنكبوت، حشرة من اللافقريات التي تبيض.. يفقس بيضها عن جنين ثم يكبر، وذكورها أصغر من إناثها.
العنكبوت تعض وبعض أنواعها قاتل.
لذلك ثمة الكثير من الناس يعانون مرض الخوف من العناكب كأي فوبيا مرضية.
ابنتي الكبيرة، رند، نزلت من غرفتها إلى حيث أجلس في الصالون، بعد منتصف الليل، وأنا أقرأ كتاب نيكوس كازانتزاكي "الحديقة الصخرية" أحد كتبه المدهشة.
قالت: بابا، لا أستطيع النوم، ثمة عنكبوت على حائط غرفتي.
أخذت كأساً زجاجية وصعدت إلى غرفتها، وفي خطتي أن أحرك تلك العنكبوت، برفق، نحو جوف الكأس لأحملها خارجاً وأطلقها حية في الحديقة.
وافقتني ابنتي على الفكرة، بابتسامة رضا واضحة من عينيها العراقيتين.
لكن حركتي لتحريك العنكبوت نحو جوف الكأس لم تكن متقنة، ولا رقيقة تليق بكائن على غاية الضعف. هكذا قتلت تلك العنكبوت الهشة عن طريق الخطأ على حائط أبيض، ناصع البياض.
هذا ما حدث، ليلة البارحة، عندما ارتكب كاتب العمود الصحفي جريمة قتل عن طريق الخطأ.
نامت ابنتي مطمئنة، هانئة، لكنني لم أنم جراء فعلتي.
سيقول بعضكم، أو جميعكم، تسودنَ الرجل.
معكم الحق كله، وأنتم تقرأون هذا العمود الذي يدعي كاتبه الرفق بالحيوان بشكل لا يخلو من مبالغة، أو أنها واحدة من شطحات شاعر لم يشأ الانخراط في القضايا الكبرى التي تشغل بال البشرية.
لا مبالغة ولا شطحة.
هذا ما حدث البارحة وكان واحداً من أسباب الأرق تلك الليلة.
حيرة كاتب العمود الصحفي تأتّت من تقليب فكرة الألم ومستوياته والسؤال: بأي جهاز متطور يمكن قياس عمق الألم وشدته، مساحته أو حجمه أو محيطه، مثل شكل هندسي؟
مثل أمور كثيرة بدا الأمر نسبياً.
فما ترونه من ألم، لا تشعر به عنكبوت، هو ألم يشعر به قاتلها، وإن تم من دون سبق إصرار وترصد، وهو ألم يدعو للأرق عند قاتل حشرة بلا تعمد.
كان الأب سلطة عاتية قتلت كائناً أعزل، مسالماً، يسعى فوق حائط أبيض، شديد البياض، ربما كان يبحث عن مخرج ما ليغادر الغرفة إلى حيث يستطيع بناء شبكته.
الألم لا يؤلم غير صاحبه.
حيرة كاتب عمود صحفي
[post-views]
نشر في: 18 يوليو, 2016: 09:01 م