اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > حيرة كاتب عمود صحفي

حيرة كاتب عمود صحفي

نشر في: 18 يوليو, 2016: 09:01 م

جلس كاتب العمود الصحفي وراء حاسوبه ليكتب عموده الذي لم يتبق على موعد إرساله للصحيفة أكثر من ساعة.
العالم مليء بالأحداث، بدءاً من الوطن، وسابع جيرانه، وليس انتهاء ببلدان الإفرنج البعيدة.
يقول غير العارف: إنه مجرد عمود صحفي من خمسمئة كلمة. الأمر بسيط، يا صاحبي!
يرد كاتب العمود: كلا، يا صاحبي، الأمر ليس كما تظن. كتابة عمود صحفي تختلف حتى عن كتابة المقال. العمود الصحفي أقرب إلى كتابة قصة قصيرة. بل أقرب لكتابة قصيدة، أو أي عمل فني آخر.
شروط التقنية وتركيز الفكرة واختزال المشهد وتبئير القصد وعدم الإفراط بالوصف وتجنب الإنشاء واحترام النفس والاحتراس من القارئ، كلها، وغيرها، تعمّق حيرة كاتب العمود الصحفي.
الحيرة، هنا، هي مقدار ما تنوء به الروح من التباس الحياة اليومية للعالم وصراع إداراته ومراكز قواه الفتاكة، المعلوم منها والخفي، مقابل زهد كاتب العمود في خوض المعترك اليومي للعالم وعدم الانغماس في موبقاته الفاقعة، ووضع مسافة ضرورية بينه وبين متطلبات الميديا المتغولة، وهي في هجومها الصاخب على كل شيء بما في ذلك الألم الصغير، غير المنظور، وغير المدون، لروح كائن حي، له اسم وتاريخ، وله عائلة من أبوين وأخوة. له تاريخ مثل البشر لكن ليست له ذاكرة، مثل بعض البشر.
هذا الكائن الحي هو العنكبوت، حشرة من اللافقريات التي تبيض.. يفقس بيضها عن جنين ثم يكبر، وذكورها أصغر من إناثها.
العنكبوت تعض وبعض أنواعها قاتل.
لذلك ثمة الكثير من الناس يعانون مرض الخوف من العناكب كأي فوبيا مرضية.
ابنتي الكبيرة، رند، نزلت من غرفتها إلى حيث أجلس في الصالون، بعد منتصف الليل، وأنا أقرأ كتاب نيكوس كازانتزاكي "الحديقة الصخرية" أحد كتبه المدهشة.
قالت: بابا، لا أستطيع النوم، ثمة عنكبوت على حائط غرفتي.
أخذت كأساً زجاجية وصعدت إلى غرفتها، وفي خطتي أن أحرك تلك العنكبوت، برفق، نحو جوف الكأس لأحملها خارجاً وأطلقها حية في الحديقة.
وافقتني ابنتي على الفكرة، بابتسامة رضا واضحة من عينيها العراقيتين.     
 لكن حركتي لتحريك العنكبوت نحو جوف الكأس لم تكن متقنة، ولا رقيقة تليق بكائن على غاية الضعف. هكذا قتلت تلك العنكبوت الهشة عن طريق الخطأ على حائط أبيض، ناصع البياض.
هذا ما حدث، ليلة البارحة، عندما ارتكب كاتب العمود الصحفي جريمة قتل عن طريق الخطأ.
نامت ابنتي مطمئنة، هانئة، لكنني لم أنم جراء فعلتي.
سيقول بعضكم، أو جميعكم، تسودنَ الرجل.
معكم الحق كله، وأنتم تقرأون هذا العمود الذي يدعي كاتبه الرفق بالحيوان بشكل لا يخلو من مبالغة، أو أنها واحدة من شطحات شاعر لم يشأ الانخراط في القضايا الكبرى التي تشغل بال البشرية.
لا مبالغة ولا شطحة.
هذا ما حدث البارحة وكان واحداً من أسباب الأرق تلك الليلة.
حيرة كاتب العمود الصحفي تأتّت من تقليب فكرة الألم ومستوياته والسؤال: بأي جهاز متطور يمكن قياس عمق الألم وشدته، مساحته أو حجمه أو محيطه، مثل شكل هندسي؟
مثل أمور كثيرة بدا الأمر نسبياً.
فما ترونه من ألم، لا تشعر به عنكبوت، هو ألم يشعر به قاتلها، وإن تم من دون سبق إصرار وترصد، وهو ألم يدعو للأرق عند قاتل حشرة بلا تعمد.
كان الأب سلطة عاتية قتلت كائناً أعزل، مسالماً، يسعى فوق حائط أبيض، شديد البياض، ربما كان يبحث عن مخرج ما ليغادر الغرفة إلى حيث يستطيع بناء شبكته.
الألم لا يؤلم غير صاحبه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

العراق الثاني عربياً باستيراد الشاي الهندي

ريال مدريد يجدد عقد مودريتش بعد تخفيض راتبه

العثور على جرة أثرية يعود تاريخها لعصور قديمة في السليمانية

"وسط إهمال حكومي".. الأنبار تفتقر إلى المسارح الفنية

تحذيرات من ممارسة شائعة تضر بالاطفال

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمودالثامن: العميل "كوديا"

العمودالثامن: عقدة عبد الكريم قاسم

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

وجهة نظر عراقية في الانتخابات الفرنسية

عاشوراء يتحوّل إلى نقمة للأوليغارشية الحاكمة

العمودالثامن: فولتير بنكهة عراقية

 علي حسين ما زلت أتذكر المرة الأولى التي سمعت فيها اسم فولتير.. ففي المتوسطة كان أستاذ لنا يهوى الفلسفة، يخصص جزءاً من درس اللغة العربية للحديث عن هوايته هذه ، وأتذكر أن أستاذي...
علي حسين

من دفتر الذكريات

زهير الجزائري (1-2)عطلة نهاية العام نقضيها عادة في بيت خوالي في بغداد. عام ١٩٥٨ كنا نسكن ملحقاً في معمل خياطة قمصان (أيرمن) في منتصف شارع النواب في الكاظمية. أسرّتنا فرشت في الحديقة في حر...
زهير الجزائري

دائماً محنة البطل

ياسين طه حافظ هذه سطور ملأى بأكثر مما تظهره.قلت اعيدها لنقرأها جميعاً مرة ثانية وربما ثالثة او اكثر. السطور لنيتشه وفي عمله الفخم "هكذا تكلم زارادشت" او هكذا تكلم زارا.لسنا معنيين الان بصفة نيتشه...
ياسين طه حافظ

آفاق علاقات إيران مع دول الجوار في عهد الرئيس الجديد مسعود پزشكیان

د. فالح الحمراني يدور نقاش حيوي في إيران، حول أولويات السياسة الخارجية للرئيس المنتخب مسعود بيزشكيان، الذي ألحق في الجولة الثانية من الانتخابات هزيمة "غير متوقعة"، بحسب بوابة "الدبلوماسية الإيرانية" على الإنترنت. والواقع أنه...
د. فالح الحمراني
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram