2-3
في منتصف شباط الماضي زرت بروكسل بدعوة من معهد غوتة لإحياء أمسية قراءة في المعهد الثقافي الايطالي في بروكسل، وعلى مدى يومي الإقامة لم انجح بزيارة الحي – المشكلة (كما هو شائع عنه في الإعلام) مولينبيك. وعندما جمعتني مائدة العشاء مع رئيسة المعهد في بروكسل، السيدة سوزانة هون، وسمعت منها أن معهد غوتة في بلجيكا ينظم زيارات للبيوت في بروكسل للقراءات الادبية، سألتها لماذا لا ينظم المعهد زيارة لأحد البيوت في مولينبيك، ولمفاجأتي، رحبت السيدة هون بالفكرة: "على شرط"، قالت، "أن تكون أنت من يقوم بذلك". فكيف أقول لا؟وعندما وقعت أحداث بروكسل بعدها بخمسة أسابيع، اتصلت بي لتسألني إذا كنت غيرت قراري، كانت اجابتي واضحة: "كلا، بل هذه المرة قراري أقوى مما كان عليه"، ثم أضفت مقلداً السيدة هون: "على شرط"، وهو؟ "أن أقرأ ليلة أمام جمهور بلجيكي وفي الليلة الثانية أمام جمهور عربي".ولكي يصبح كل شيء في متناول الحاضرين، ترجم معهد غوتة لليلة الأولى ثلاثة فصول من كتابي "بغداد. ذكريات مدينة عالمية"، إلى الفرنسية، رغم أن عدداً كبيراً من الذين سيحضرون الأمسية الاولى يجيدون اللغة الالمانية. كان يُمكن ملاحظة الفضول على وجوه جمهور هذه الليلة، الفضول لما يقوله الكاتب الذي حضر من برلين من أجل قراءات وزيارات بيوت في مولينبيك؟ الاستغراب الذي كان يمكن ملاحظته على الوجوه أيضاً، لأن الزائر القادم من برلين، لم يقرأ كتاباً تدور موضوعته عن الحرب، أو لم يلق عليهم محاضرة عن الإرهاب والدين، بل كل ما قام به في تلك الليلة، هو قراءة فصول من كتابه "بغداد. سيرة مدينة" (دار الساقي، بيروت 2015)، كتاب يتحدث عن سيرة الكاتب حقيقة وهو طفل حتى سنوات الشباب واختلاط تلك السيرة مع سيرة المدينة. لماذا؟ كان هو التساؤل الذي بان على الوجوه، وكان عليهم أن ينتظروا توضيح الزائر، الذي حدثهم، كيف أن بغداد كانت مدينة عالمية ذات يوم، وأن مجدها الذي بنته في تاريخها ارتبط مع ازدهار العلوم والفنون، في تلك الأيام التي تحولت فيه إلى مكة للباحثين وطلاب العلم، طلاب من مختلف الجنسيات والبلدان، تلك الأيام التي اصبحت فيها مركز لخيلط متجانس من البشر، من غير المهم المذهب والدين، لون الجلد أو الجنس، يعيشون جنباً إلى جنب، حتى أُطلق عليها ذات يوم "مدينة السلام"، وما يزال اللقب هذا الثوب المزكرش الذي تلبسه المدينة رغم سخام الحروب وبارود القنابل والدمار، لكن ما أن انهدّ هذا الصرح، هذا التنوع البشري والعقائدي الذي بنت مجدها عليه، ما أن انثلم الاختلاط هذا، حتى حلت اللعنة على المدينة، وأصبحت عرضة للحرب والدمار، مستباحة أمام الغزاة، بغداد وفي الصورة التي يرسمها لها الكتاب هي مجرد حلم لفردوس مفقود، يصر سكانها وعشاقها على تحقيق أملهم بالوصول إليه، لا يهم ما لحق بالمدينة وبهم من خراب. بهذا الشكل، كتاب "بغداد. سيرة مدينة" الذي صدر بترجمته الالمانية بعنوان "بغداد. ذكريات مدينة عالمية" (هانزر فيرلاغ 2016)، ، هو ليس بحث في السيرة وحسب، بل هو محاولة لجعل المدينة التي اختلطت صورتها من الواقع والخيال: مكاناً للسلام. وبروكسل؟ أليست هي بوتقة لكل هذا المزيج من البشر؟ من يتجول في شوارعها وأزقتها واسواقها، من يقطعها من الشمال حتى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، لن يلتق إلا ببشر من كل الجنسيات والمذاهب والقوميات والأديان، أنها برج بابل الأرض الذي يمتد مع خطوات سكانها في جولاتهم كل يوم، وهي تعيش على هذا المجد، تصدع هذا الصرح هو بداية لإطلاق النذير، وعلى سكانها أن يعرفوا الاشارة هذه، انها البداية لنفق ديابولو جديد وطويل، ثمنه أغلى من المبلغ الغريب هذا الذي يدفعه سكانها والزوار كل يوم.الإشارة تلك التي جعلت جمهور الليلة الأولى يعيد النظر بما فكر به عند حضوره، لأن الفضول الذي امتلكه بعضهم في تلك الليلة بالعثور على جواب لتهديد الارهاب، بسماع أجوبة من االكاتب على قلقهم الذي يتنامى يوماً بعد يوماً، أليس الكتاب هم ضمير أمتهم؟ وبدل أن يسمعوا أجوبة تفسر لهم كيف عليهم التعامل مع الحي المشكلة مولينبيك، سمعوا من الكاتب، يخبرهم، أن كل بروكسل هي مولينبيك، وبدل أن ينظروا إلى ذلك بصفته مشكلة، عليهم أن ينظروا له بصورة ايجابية، وأن يبحثوا عن الجواب بينهم، ماذا فعلوه من خطأ، لماذا كل هذه اليد المطلقة للسعودية في أوروبا، وفي بلجيكا وبروكسل على وجه الخصوص؟ ماذا يأتي من السعودية وجوامعها ،التي فقط اثنان منها في مولينبيك، غير وعائظ الشر؟ الايديولوجية الوهابية خطرة، قوتها بقوة البترودولار السعودي، وإذا لم تعِد أوروبا علاقتها بالسعودية، عليها ألا تستغرب أن تتحول عواصمها إلى ما يشبه بغداد.
يُنشر بالتزامن مع نشره في صحيفة نويرتزوريشير تزايتوغ السويسرية
يتبع
جولة عبر مولينبيك بروكسل
[post-views]
نشر في: 19 يوليو, 2016: 09:01 م