في خمّارة القيظ الجنوبي، ووسط حرائق الريح السموم بالبصرة، ستقودك أقدامُك ثانية باتجاه سينما الوطني الشتوي، تلك التي تنتصب عند مبتدئه من جهة أسد بابل ومصرف الرافدين، ولأن الفيلم لم يعجبْك، لأنْ الشمس طاردتك كثيراً، فقد حملت ما ظلَّ بين قدميك من الخطى المنهكات، ودخلت الحانة الضائعة وسط المحال، القابعة بين ما تبقى من بيوت سكان محلة العزيزية المسيحيين، الحانة التي أسمها "بوبيان". لا، لم تصعد سلّمها الخشبي القصير، الذي تفوح منه، إلى اليوم رائحة الدهان، إنما اتخذت من طاولة صغيرة بكرسيين، أسفله مهبطاً ونزلت، هل يمكنني أستعادة طعم كأس البيرة الأولى، لا أظن، هل تمكّن أولئك الذين ظنوا السوء بما تشرب وتستطعم، أو الذين قالوا بحُرمتها عليك، من تتبع مسارها الذهبي في مريئك بحرقه الألف، وهي تختال الاوردة والشرايين اللاهبة، وهي تتهادى في جوفك، أو وهي تزيل اللهب والتعب والاصدقاء النافلين . لا أظن ذلك أبداً.
لا يُطفئ الماءُ الباردُ حرارةَ الصيف، مثلما تطفئها كأس البيرة الأولى، وبعيداً عن التحليل والتحريم، قريبا من الحاجة والنفع رحت تقول لي بأن اجدادنا السومريين هم أول من صنع الجعة، وعنهم أخذت الأقوام صناعتها والتفنن في جودتها ومناسبات شربها، وسألتك ما إذا كانت أرض السواد حارّة كما هي اليوم، حدثتني عن الوالي العثماني الذي قال بقطع النخيل إن كانت هي مصدر الحرارة في تموز وآب، وهنا أردتُ أنْ أدخل معك مدخل الفلاسفة والاطباء في حديثهم عن الحياة، وما يتطلبه العيش فيها، ولأنني لا أحسن الحديث هذا، وجدتني مجدفاً على مدارس اللاهوت، التي ظلت تمنع اطايب الطعوم عنا، نحن بني الارض، بذور مسراتها الأكيدة.
أنْ تتصل بأكثر من بائع مستتر للخمرة في المدينة، فلا يدلك واحد منهم على ضالتك، ولا يهديك أحدٌ منهم إلى زجاجة بيرة واحدة، لهو السخف بعينه، أنْ تسأل أصدقاءك وأتباعك ومن تبعهم بالخمرة الى يوم الجمعة والسبت فلا يُجيبك أحدٌ، لهو الفقر والفاقة والعوز بعينه. أيَّ مدينة هذه التي لا ترويك من ظمأ ولا تشبعك من سهر، ولا تحميك من قاتل، أي مكان هذا الذي تريد أن تصبح به شاعرا، كاتباً، فنانا مبدعا تستجلب الجوائز لبلدك وأنت عاجز عن صناعة لحظة استثنائية فيه، أي البلاد هذه التي يقتلك حرُّها ويستريح جسدُك على رمضائها ويسخر منك شُذاذ آفاقها، ويستبيح جُهدك ووقتك وأناقتك أتفه الناس فيها، أي البلاد هذه، التي تقف عاجزة عن تأمين ليلة حمراء لعظمة جسدك وأنت تستصرخه فتوةً على أحد أسرتها، أي مدينة هذه التي تطاردك انساناً كاملاً وتستبيحك روحاً استثنائية وتنتهك شاعراً، صانعا للجمال ؟
ليمتنع عن اللذائذ من يريد، وليتعفف عن سماع الموسيقى والغناء والرقص كما يشاء، ومن يريد، وليحرم نفسه طعم كأس البيرة الأولى من يريد، وليسرق نهارا جهاراً، أكان على وضوئه أم بدونه من يريد، وليقف مندداً بجسده، متطلعا لفنائه، محرّقاً روحه بآثامه، لاعناً، معتذرا من يريد. أنا لي جسدي ولي روحي ولي انفاسي لا أبذلها لأحد سواي، ولا أبخسها حقها، ولست بحاجة لنصيحة أحد، لي ربي الذي أعرفه، مثلما لكم أربابكم الذين تعرفون. مررت بالذي مررتم عليه، ووقفت على الصحيح والضعيف والمسند والمنحول، وخبرت الخير أقربه وأبعده، وتجنبت الشر أفحشه وأوحشه، لكنني والله لن أشارككم حفل القتل الذي استمرأتموه، ولن أمد يدي لمال سرقتموه، ولن أمزّق راية أرادها شعبي للحمته، ولن يمرق سهمي من رميّة أهلي الى نحر احد منهم، سأظل على جواد النور أسعى، أضيء ما أعتم من بيوت الجيران، الأقربين منهم والابعدين. هكذا أريد ان ألقى ربي طاهرَ اليد واللسان، عفيف الروح والفكر، منتشياً بما شربتُ، مستقبحاً ما فعلتم.
منتشياً بما شربتُ.. مستقبحاً ما فعلتمْ
[post-views]
نشر في: 23 يوليو, 2016: 09:01 م