- 1-يوم (داستْ) الدبابة الأمريكية رصيف المحلة لأول مرة ،تضببتْ عيناها بدموع الاحتجاج والرفض ،وراحت تتلو الحكاية الأثيرة التي رضعناها مع حليبها .......عن الساعات الأولى لثورة 14 تموز /1958،كيف استيقظ جميع من في دار جدها على وقع البيانات الإذاعية
- 1-
يوم (داستْ) الدبابة الأمريكية رصيف المحلة لأول مرة ،تضببتْ عيناها بدموع الاحتجاج والرفض ،وراحت تتلو الحكاية الأثيرة التي رضعناها مع حليبها .......عن الساعات الأولى لثورة 14 تموز /1958،كيف استيقظ جميع من في دار جدها على وقع البيانات الإذاعية والأناشيد المدويّة ،وأهازيجهم :سقط الاستعمار وأعوانه ،سيخرج الأحرار من السجون ،انتهى الظلم.......
لم يكن أحد يجرؤ على نقد (عبد الكريم قاسم )أمامها ،فهي تؤمن به إنساناً وقائداً ،لم تمهله الدوائر الامبريالية الوقت الكافي ،فتدلّتْ كل مشاريعه وأحلامه مع جسده على المشنقة. فلسفتها في الحياة :
- كلّ من يحبّ الفقراء، ويحنو على الضحايا أنا منحازة له.
اعتادت أن تدندن وهي تعدّ أطايب الطعام نشيدها المحبّب التي كانت تصدح به الجماهير في يوم من الأيام : (عبد الكريمْ كل القلوبْ تهواكْ).
شاكسها ابنها الصغير مداعباً:
- راح كريم ،ومضى الرفاق. فجاء صوتها من عمق المطبخ :
- أبداً لم يرحلوا ،(عيني كريّمْ للأمام ْ،ديمقراطيه وسلامْ).
-2-
هي تاريخ العائلة الممتدّ ،وذاكرتها المتّقدة : أرقام الهواتف ،أعياد ميلاد الأولاد والأحفاد ،أحداث العراق ،ألقاب العوائل ،أسماء ممثلي وممثلات هوليود ....... ومع نهايات الليل تتطاير أصوات كوابيسها عن أقبية التعذيب في (قصر النهاية )،الإخوة الذين فقدتهم بسبب قسوة الظروف ،أسماء أصدقاء لم يغادروها بالرغم من تراخي السنين : سافرة جميل حافظ ،آزادوهي صموئيل ،زكية خليفة ،روز خدوري ،متي الشيخ،غانم حمدون ،محمد شرارة ،صفاء الحافظ ،سلام عادل ،رشدي العامل ،مهدي المخزومي........ ،هتافاتها مع الطلبة تأييداً لجمال عبد الناصر عام 56،رحلاتها المكوكيّة مع زوّادات الطعام والتبليغات الحزبية إلى (نقرة السلمان )،ثم تستيقظ فزعة على الواقع المرير: كلّ شيء ذهب مع الريح.
-3-
كتلة هي من التضحيات الباذخة ،لاتمدّ يدها إلى زاد قبل أن تطمئن إلى أن الجميع قد غرفوا ما يكفيهم ،تسير في طرقات تموز في لب الظهيرة لتدخّر نفقات للعائلة يوم كان الأخوة متوزعين بين المعتقلات السياسية ،امرأة من زمن الطهر ،منذورة للبذل والعواطف الفيّاضة على كل مافي الوجود ومن فيه ،من أول (باب الشيخ) حيث شبّتْ وكبرتْ إلى أقصى الصين والهند حيث وصلت ،البشر عندها سواسية،بلا تمايز عرقي أودينيّ أوطائفيّ ،لها من العرب والأكراد ،والمسلمين والمسيحيين والصابئة أصدقاء وأحبة ، تردد في كل مناسبة : - أول منْ غرس بي الفضائل معلمتي اليهودية في (العمارة ) في الصف الأول الابتدائي، ثم أعقبتها (نازك الملائكة ) في دار المعلمات. يبكيها (حسين نعمة) لأنّه صوت الجنوب المضمّخ بالأصالة ،ويثيرها غناء الدكتور (سعدي الحديثي) لأنه مخزون متراصّ من أوجاع البادية الغربية ،ولاتسلْ عن بغداديات (عفيفة اسكندر) و(سليمة مراد) و(رضا علي )،فما أسرع ما تختلط أغنياتهم بنشيجها الدافئ. لابدّ أن يبدأ برنامجها اليومي من (أحمد شوقي) تردّ به على من قرروا الهجرة من أفراد عائلتها الكبيرة :
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة وقومي وإن ضنوا عليّ كرامُ
وتعرّج في لحظات الانفعال والغضب على تنويمة أبي فرات حبيبها الأكبر :
نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام
ولا تجد وهي تهدهد حفيدها في أول الليل إلاّ رائعة (مظفر) اللائطة بقلبها عن (الريل وحمد).
في بداية السبعينات بدأت المضايقات تلاحقها في المدرسة للانتماء للحزب الحاكم ،جوابها الصريح الواضح : لا ،حين أحست بالتهديد مالتْ إلى الحلّ الذهبيّ 🙁 التقاعد) – (لا أرى القرد ولا القرد يراني). لم تستطع استيعاب معنى أن يغيرّ المرء قناعاته بحسب المواسم ،ولم تغتفر لبعض المقربين منها تحوّلهم الشنيع من أقصى ضفة إلى أقصى ضفة معاكسة ،ليست لديها مشكلة مع انتماءات البشر،ولكنها تثورعلى النفاق والتزييف.
-4-
مع توالي الحروب الحمقاء والحصارات الخانقة والانكسارات الروحيةالفادحة،وحين اشتدّ وطء الدبابات الأمريكية على رصيف المحلة ،دخلتْ في دور من الحزن الداكن ،لم تصدّق مشاهد الدمار والحرائق . انفصلت تدريجياً عمّا حولها . شخّص (المفراس )الحالة بدقة :
- ضمور في خلايا المخ ،إيذان بـ (الزهايمر).
شيئاً فشيئاً اختلطت عليها الملامح والأحداث، فقدت القدرة على تمييزحتى وجوه أبنائها ،انزلقتْ نحو منطقة الشحوب والغبش والخواء ،لم تعد تستجيب إلا لصوت ابنتها :
- أمي أكملي معي: حييتُ سفحك عن بعدٍ. فيأتي صوتها خافتاً مهدوداً بعد حين
- (فحييني).
- (يا دجلة الخير يا أم ....). فتجيب بصعوبة
- (البساتين).
- أمي (عيني كريّم للأمام.....)
- (ديمقراطية و....... لم تكمل البيت (سلام) ،لفظتْ أنفاسها وغادرتنا إلى الأبد (حذام عبد القادر).
جميع التعليقات 2
شهرزاد جعفر السعدي
نعم ، أنها الخاله الخنونه حذام ، التي آثرت أن تكون حنونه علينا حتى في فجع الرحيل . أرادت أن ترحل تدريجيا. انت تنامين في قلوبنا قبل التراب . رفضت عقولنا أن تراك بغير ذاك الكيان المعافى قبل الأنتكاس أنت من كان بيتك ملاذا للجميع . فرحة العيد .نامي مقرورة ال
عادل سعيد
( بلادي و إن جارت عليّ ........ ) . هذا البيت الشهير، ليس لأحمد شوقي، و إنما للشريف ( قتادة أبو عزيز) الذي تولى إمارة مكة عام 597 هـ، و توفي عام 617 هـ .مع الشكر و التحية، للسيدة نادية، كاتبة النص الجميل.