قبل سنوات خمس، احتفيت في عمودي هذا بترجمة شعرية التزمتْ الوزن والقافية لملحمة كلـكامش، قام بها الشاعر ابراهيم محمد النصار. وكتبتُ حينها أن " أن هذا الإنجاز للشاعر النصار، وسط العجز الملحوظ في ترجمة الشعر شعراً، سيظل إضاءة تستحق كل الإعجاب والتقدير." في عمود اليوم سأعرض لمحاولة شبيهة في ترجمة عمل شعري معاصر عن السويدية التزم بناء "السونيت"، الذي لا يقل صرامةً عن عمودِ الشعر العربي. العملُ الشعري بعنوان "سونيتات إنْغَرْ" (منشورات المتوسط 2016)، للشاعر "ماكنوس وليام ولسون" (مواليد 1960)، وترجمة الشاعر إبراهيم عبد الملك. و"السونيت" (استخدم المترجمُ مصطلح "السوناتا"، وهو شكل صارم في الفن الموسيقي وحده) فنٌ قديم اشتهر فيه كلٌّ من الإيطالي بترارك وشيكسبير. يعتمدُ أربعةَ عشر بيتاً شعرياً، في مقاطعَ أربعة، وهذه بدورها تعتمدُ في التقفية: أب ب أ، أ ب ب أ، أ ج أ، أ ج أ. ولقد جاراها الشاعر ابراهيم بصورة تثير الاعجاب.
العمل من 27 سونيت، يستعيدُ الشاعر فيها علاقته بأمه التي عانت من مرض الزهايمر. وهي علاقة بالغة التعقيد، يمكن متابعة تفاصيلها الروحية والفيزيائية، حتى عبر الترجمة، لأن ماكنوس يُعنى بالصورةِ الحسّية داخلَ زمنٍ يتحرك كحدث لا تواصل فيه أحياناً، بل بترٌ وتقاطع، حتى ليبدو أشبهَ بتشكيلٍ تكعيبي عماده الحركة: "حولَ اللحظة إذْ هي في النسيانْ/ يتلوى الزمنُ المجروحُ، ويلوي كلَّ مفاصلِها/ ذاتُ اللحظةِ يسكنها التوقُ لما كانْ."(ص12)
وأحياناً نتابع الصورةَ عبر حدث متواصل: "كفّي بكفِّك، والرجال أراهم يتحلّقون/ يتلفتون، يحدّقون، يصفّرون/ فأحسُّ باستمتاعكِ: الردفان يهتزان، صدرُكِ إذْ يُشَدُّ وتبسمين/ تتقوّسين، وتأسرين، وتغرفين/ من شهوة الدنيا. "ستُدرك حين تُنضجكَ السنونْ/ هذا بنفسك." ثم يُبهر ناظري إذْ تضحكين/ لألاءُ سنِّكِ. ذاك نور الشمس. تلك ستائرُ الذكرى، الشجونْ/ تتخدّدُ. الماضي تجلّى فيه حاضرُنا الحزينْ."(ص14)
هذه العذوبة الغنائية، التي لا تُربكها التفاصيل، كثيراً ما تقع عليها في "سونيتات" ماكنوس، حتى وهي تنبش في سرِّ الشهوانية للأنثى الأولى وقد تجسدّت بصورة الأم. يُخيل لي أن ماكنوس في القصيدة، يتقمص شخصَه وهو مراهق، في أولى لحظات استيقاظ الرغبة، ثم مستعيناً على كِبرٍ بعقدة أوديب. ولكن الأنثى تُطلُّ عليه من الحضور الكلي للأمِّ المريضة، ولذلك يصبحُ للموت حضورَه الكلّي أيضاً.
إن هذه العودة إلى فن السونيت الصارم لا تُدهشني، بالرغم من أن ماكنوس "حمل على عاتقه مع عدد من مجايليه، عبءَ النهوض بالمتغيّرات الأسلوبية التي صاحبت نشوءَ ما بعد الحداثةِ الشعرية في السويد"( المترجم، ص68) وأذكر أنه، في محادثة قديمة بيننا، كان يُنكر عليَّ استخدامَ كلمة "معنى" في الحديثِ عن الشعر. وهو الآن يقول في كلمتِه حول سونيتاته هذه: "كنتُ غالباً ما أشجبُ هذا الإلزامَ الأسلوبيَّ باللغة السويدية. ولا أزال متمسكاً بوجهة نظري في أننا لم ننلْ شعراءَ عظاماً قبل أن يتركَ الشعرُ السويديُّ المنظومُ إلزامَ المقفى. وبالرغم من ذلك كانت هذه السوناتات السبع والعشرون مقفاةً. حتى أنني أكاد أتمنى لو أن أحداً سواي كتبَها."(ص64)
النظريُّ فيه هنا يُكابر على الشاعر. في حين أن شاعرَ "السونيتات" هذه هو الذي حصد بها "الجوائزَ ومديحَ النقاد، حتى اعتبرت أهم مجموعة شعرية في عام صدورها." (المترجم، ص70). اعتقد أن الشاعرَ الجيد، و ماكنوس شاعر جيدٌ بالتأكيد، رحبٌ كبحرٍ محيط، والأشكالُ الشعريةُ جميعاً عائلتُه.
قرأتُ هذه الترجمة مرتين، وبعضَ مقاطعِها مراتٍ، لأن الجهدَ فيها استثنائي. وأعرف أن الشاعرَ ابراهيم عبد الملك يتمتعُ بفضيلة احتضان الـتراث الشعري العربي بصورة تفوق الكثير من أقرانه. كما يتحلى بعاطفة قلبية، وبصبرٍ لا ينفد. حتى أنه صرف في ترجمته هذه سنواتٍ أربع، على حدّ قوله. حاول التنويعَ في الأوزان، وتجنبَ تواترَ القافية أحياناً. وبالرغم من عمق الهوة بين إيقاع الشعر الغربي عامة والشعر العربي، إلا أن ابراهيم قدم لي "سونيت" تقليدي الوزن بوزن عربي تقليدي. وكانت هذه العناصر جميعاً، إلى جانب شاعرية سويدية دفينة في النص العربي، هي التي خففت علي كلّ عبء.
سونيتات ماكنوس
[post-views]
نشر في: 24 يوليو, 2016: 09:01 م