TOP

جريدة المدى > عام > المتنبي.. المثقف الزاهد .. مثقفو العراق.. انعكاس صورة الإبداع أم صورة المظهر؟

المتنبي.. المثقف الزاهد .. مثقفو العراق.. انعكاس صورة الإبداع أم صورة المظهر؟

نشر في: 26 يوليو, 2016: 12:01 ص

عند ضفة الرصافة التي تطل على دجلة والمقابلة لجانب الكرخ، يقف هذا الحجر الأسود المتباهي غروراً لتمثال المتنبي رافعاً ذراعه بكبرياء وتعالٍ ، ويزدحم حوله المارّة الذين يتمتع أغلبهم  بمظهر غريب وكأنهم يقدمون عروضاً لأفلام كارتونية ساخرة أو يشبهون صو

عند ضفة الرصافة التي تطل على دجلة والمقابلة لجانب الكرخ، يقف هذا الحجر الأسود المتباهي غروراً لتمثال المتنبي رافعاً ذراعه بكبرياء وتعالٍ ، ويزدحم حوله المارّة الذين يتمتع أغلبهم  بمظهر غريب وكأنهم يقدمون عروضاً لأفلام كارتونية ساخرة أو يشبهون صوراً كاريكاتيرية ، يطوفون حوله كإلهٍ عظيم .
 
 حرّ الجو حرمني متعة النظر لدجلة المُتلألئ تحت اشعة الشمس  ، وصخب الأغاني الهابطة التي كان يكرر تشغيلها " صاحب العبارة " منعني من النزول على مقربة من الشاطئ والامتزاج  بدجلة، لهذا اخترت الوقوف بمواجهة تمثال المتنبي ، كنت بحاجة للحظة صفاء منفردة ، لكن الزحام هناك أكدّ لي أن لحظات الهدوء محالة في مثل هذا المكان ، ومجيء بعض المثقفين لإلقاء التحايا عليّ كان سبباً إضافياً لتعكير صفوتي ، فبحسب عملي كصحفية في المجال الثقافي أنا على تماس دائم بوسطهم .
 كان بعضهم شديد التملق لي ، وكنت أعلم أن الكلمات التي يتلونها في مديحي ومغازلتي مبالغ بها لأنني مدركة لذاتي المتواضعة وبساطةً قدراتي ، أما الآخرون فكنت أحاول دائماً انهاء الحديث معهم بشكل سريع  لأنهم أشبه بالإسفنجة .
في محاولتي العودة إلى الشارع الداخلي حيث تُباع الكتب صادفت شاباً أشعث الشعر يرتدي قبعة رعاة البقر ، لحيتهُ التي بدا أن الماء لم يطلها منذ اسابيع كانت طويلة أكثر مما ينبغي وملابس رعاة البقر التي كان يرتديها أثارت تحفظي ، مظهره لم يكن غريباً بالنسبة للمتواجدين في شارع المتنبي فهم لا يختلفون عنه في إطلالتهم ، إلا أن ملامحه التي لم تكُن غريبة عليّ هي التي استوقفتني  ، (أنه ..... لكن لماذا هو يظهر بهذا الشكل!)
ترددت بين الاقتراب والحديث إليه ، أو تجاهل الأمر ، لكنه لحظني وفاجأني مبتسماً ومرحباً بحرارة ، (فرقد !! ما الذي فعلته بنفسك ؟ )  
 " ماذا ألم يُعجبك ؟" .
 لم أكن قادرة على الإجابة لأنه كان بصحبة اثنين من رفاقه  وكانوا يشبهون دايسكي بزيه الريفي في مظهرهم ولم يكُن ينقصهم سوى الغيتار الذي استعاضوا عنه بحمل حقائب الكتف واحتضان بعض الكتب .
فرقد صديق قديم ، لم أره منذ قرابة عام ، إلا أننا كنا دائمي التواصل  عبر الهاتف أو مواقع التواصل الاجتماعي ، لم أتوقع أنه تغير عن آخر مرة التقيته فيها ، كما أنه لم  يحدثني عن أي تغير طرأ عليه ،  خلال المرات القليلة التي تحدثنا فيها .
 سألته  ،( ماذا تفعل هنا ؟ منذ مدة ولم أسمع خبراً عنك ؟.)
 " حسناً أنا ازور المتنبي كل جمعة لحضور البرامج الثقافية وشراء بعض الكتب ،نحاول أن نتثقف."
 أجبته من بين أضراسي "جيد" ، كنت أود سؤاله كيف يحاول أن يتثقف  بهذا الشعر واللحية المشعثة ، أم بهذه الأزياء الغريبة ، أم بتلك الروائح التي تفوح من رفيقيه والتي كانت السبب الأول الذي دفعني لاختصار الحديث معه بحجة أنني مرتبطة بعمل .
  تساءلت لمَ جاء قرار فرقد بتغيير مظهره مُتخذاً هذا الجانب ، وتزامناً مع قراره في أن يصبح مثقفاً ؟ لماذا يظهر المثقفون أو المتثاقفون بهذا الشكل دائماً ، لحايا غريبة وقصات شعر أغرب ، ملابس لا تليق للظهور الاجتماعي ، وإن لم نجد بعضهم يترنح بسكرته في وضح النهار ، سنجده محتضناً لفتاة بعمر حفيدته ، مُعلناً من خلالها صباه المتأخر .
قادتني ذاكرتي  إلى أنني سبق وأن ناقشت مشكلات  المثقف العراقي وتداعيات ظهورة بشكل غير لائق سواء أكان ظهوراً صورياً أم جوهرياً ، مع عدد من سيدات الوسط الثقافي ، لتخبرني إحداهن وبمنتهى الصرامة قائلة  " إنني بعيدة كل البعد عن هؤلاء  ."
في رواية "نبوءة فرعون" يدور الحوار التالي بين عبد الملك الفنان والمصور الشمسي :"كنت أعمل في باب المعظم ، قرب الدفاع ، وياما رأيت الفنانين يمرون من هناك بملابسهم الغريبة، وأحذيتهم الممسوحة، ولكن الحق يقال أنهم ينتقونها من اللنكات بعناية فائقة، فكنت أستطيع التخمين من نظرة واحدة أن هذا الرجل مخرج والآخر رسام أو ممثل ، ضحك عبد الملك وقال: - ولكني أرتدي بدلة جديدة كما ترى. فقال المصور الشمسي : ولهذا لم أتوقع أن تكون فناناً."
من خلال هذا النص ذكرت لي القاصة ميسلون هادي أن "هذا الكلام هو كلام المصور في الرواية، ولا يعبر بالضرورة عن الصورة التي يبدو عليها جميع الفنانين ولا الأدباء، ولكني شخصياً أظن أن المظهر هو عرض من أعراض الجوهر، والتصوف أو الزهد ، فالبساطة  ميزة من أهم مزايا المثقف الذي قد يتعفف عن البهرجة والمبالغة في الملبس ."
من الجيد أن تُقرن القاصة ميسلون هادي مظهر المثقف بالزهد والتصوف  ، لكنها قد تكون غافلة عن الفنان المذكور في رواية "نبوءة فرعون" وهو يرتدي بدلة جديدة من المؤكد أنها متناسقة الألوان وتنبعث منها رائحة عطرة ، ولا يشترط أن تكون باهظة الثمن ، فحين أخبرت هادي أن الزهد والبساطة لا يتنافيان مع الظهور بشكل مقبول "على الأقل" ، ولا يعنيان الترنح  والتملق للفتيات الصغار، ضحكت وأجابتني "نعم هذ الشكل غير مقبول على الإطلاق ، فعلى المثقف أن يفصل جيداً بين البساطة في الملبس واستخدام الكماليات وعدم البذخ ، وبين سوء المظهر وسوء السلوك لأن الأخير يوحي بإساءة كبيرة للشخص ذاته وللواقع الثقافي ، كما أن الثقافة هي أكبر مروض لسلوكيات الشخص ."
ولا تزال رؤية هادي للموضوع لا تخرج عن حدود الطرفة فهي ترى "أن ارتداء القبعات أمر طريف جداً ،فبعض المغتربين يلجأون إليه دون أن أفهم لماذا. لربما يستعيضون بها عن الكاسكيتة لتغطية الشعر الخفيف."
لكن هادي كأي امرأة تهتم بمظهرها كاهتمامها بمؤلفاتها ، وتؤكد أن " في كل الأحوال المظهر حرية شخصية على أن يتسم بالأناقة والنظافة والجمال."
الكثير من النساء المثقفات سواء كقارئات أو من متصدرات المشهد الثقافي اللاتي يستهجن الحال الذي يظهر به بعض ذكور الوسط ، رفضن الاعتراف بهذا على مرأى الجميع ، وحذرنني من احتمال أن أقع في مشاكل أنا في غنى عنها ، فتذكر الشاعرة نضال القاضي "ستجلبين الانتقاد لك من خلال هذا التقرير ." لكنها لم تمنع نفسها عن الضحك وهي تقول "نعم يتواجد البعض بهذا الوصف في وسطنا لكني لا التقي بهم ولا أحادثهم ."
وبين تميز المظهر وتميز المادة الابداعية كانت الكاتبة عالية طالب تُرجح كفة الابداع على المظهر ، إلا أني لم أكن أعلم إن كان إبداع مُثقفينا يفوق مظهرهم جمالاً ، أم يفوقه تعاسة ؟.
وتقول طالب "الأديب لا يهمه ان يرتدي افخر الثياب ولا ان يسأل عن الماركات العالمية ليتأنق ، فما يهمه حقا هو ان يقدم افخر واجمل واروع ثيمة للآخرين ولنفسه ليفخر بأنه تميز بما يفتقده غيره، وانه رمى حجره الخاص في البركة الساكنة ."
وقد عدّت طالب أن انتقاد مظهر المثقف هو محاولة للإساءة  للمثقفين ، وكنت أتساءل ما إذا كان المثقف "المتثاقف" هو من يُسيء للبلد وللرسالة التي يجب أن يحملها باسم وطنه من خلال عكس صورة سيئة عن مظهره وسلوكه ، أم أننا نحن من يُسيء له حين نُلفته لعيوبه ؟ .
وبينما كنت أحاول أن اتخطى فرقد ورفاقه ، وجهت نظري إلى المتنبي من جديد مُتسائلة : ماذا كان يرتدي هذا الرجل المغرور بقصائده وكبريائه في ذلك الزمن؟ ، وهل كان يترنح في وضح النهار أم أن غروره حصّنه من ذلك ؟ ، جميع الآراء اتفقت على أن يكون المثقف متواضعاً وزاهداً وهذا ما جعلني أرى أن هذا اللون الحجري وهذه اليد المرفوعة للمتنبي لاتتناسب مع الزهد والتواضع ، وأن علينا العمل على تغيير شكل تمثال المتنبي ولون ثيابه إلى ما يوحي بتواضع مثقفي ما بعد 2003 .

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

"مُخْتَارَات": <العِمَارَةُ عند "الآخر": تَصْمِيماً وتَعبِيرًاً> "كِينْزُو تَانْغَا"

الذكاء الاصطناعي والتدمير الإبداعي

موسيقى الاحد: "معركة" المغنيات

السينما والأدب.. فضاءات العلاقة والتأثير والتلقي

كلمة في أنطون تشيخوف بمناسبة مرور 165 عاما على ميلاده

مقالات ذات صلة

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا
عام

الصدفة والحظ.. الحظ الوجودي والحظ التكويني في حياتنا

ديفيد سبيغنهولتر*ترجمة: لطفية الدليميقريباً من منتصف نهار التاسع عشر من آب (أغسطس) عام 1949، وفي محيط من الضباب الكثيف، عندما كانت طائرة من طراز DC-3 العائدة لشركة الخطوط الجوية البريطانية في طريقها من بلفاست...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram